الأربعاء - 15 يناير 2025
الأربعاء - 15 يناير 2025

استمتعوا بحياتكم وكفى!

استضافت جامعة الإمارات في خريف العام ٢٠٠٥ مؤتمراً دولياً بعنوان «العولمة والتكنولوجيا والتنمية المستدامة» دُعي إليه عدد من المتحدثين المتميزين من أنحاء العالم كان على رأسهم البروفيسور الأمريكي المعروف Thomas Schelling الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد. فكرنا حينها أن نغتنم فرصة وجود البروفيسور توماس ونجري معه مقابلة سريعة تكون موضوعاً رئيساً في المجلة الاقتصادية التي كنا قد أنشأناها حديثاً، وقد وافق بكل رحابة صدر على إجراء المقابلة معنا، بدأت بطرح بعض الأسئلة المتخصصة عليه في مجال الاقتصاد، فكان يجيب بأسلوب شيّق ومختصر غير مخل ولا ممل، وحينما انتقلت لسؤاله عن النصيحة التي يوجهها للطلاب الذين مازالوا على مقاعد الدراسة وأولئك الذين يستعدون لدخول معترك الحياة العملية أجاب بعبارة واحدة «قولي لهم أن يستمتعوا بحياتهم». استدركته بالسؤال: ثم ماذا؟ فأجاب «أن يستمتعوا بحياتهم وكفى!». لا أخفي عليكم أني أصبت بشيء من خيبة الأمل عند سماع تلك الإجابة «العادية» تأتي من رجل «غير عادي» كتوماس شيلينج، توقعت أن سنوات عمره التي كانت قد جاوزت الثمانين في حينها وزخرت بمختلف التجارب والإنجازات، توقعتها أن تسعفه بإجابة أكثر تعقيداً وفلسفة وبلاغة، انتظرت أن أسمع منه محاضرة قصيرة عن أهمية العمل والمثابرة وتحصيل العلوم، ظننته سيخبرنا عن الطرق الصعبة التي سلكها في حياته حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم، لكنه تجاوز ذلك كله واكتفى بتلك الملاحظة العادية التي كنت لأسمعها من أخي الصغير أو صديقتي المقربة أو أي شخص آخر لم يبلغ الثمانين من عمره ولم يحز جائزة نوبل! مرت السنون بعد تلك المقابلة التي نسيت معظم ما جاء فيها باستثناء نصيحة شيلينج «استمتعوا بحياتكم». يحدث أحياناً أن نستيقظ على حياة رتيبة متبلدة لا طعم فيها ولا لون ولا رائحة ولا حياة، حياة ممتلئة بأشياء كثيرة تشغل حيزاً من الفراغ ولكنها مفرغة من المعاني الأعمق التي تُبقينا على قيد الأمل قبل الحياة، يحدث أن يجرفنا الموج إلى أماكن بعيدة لم نتخيل أننا سنبلغها يوماً، أن نغرق في أصغر التفاصيل حتى نكاد نراها الصورة الأكبر، أن نتوهم أن الهوامش أكثر أهمية من المتون، وأن الترتيب الثاني يأتي قبل الأول، وشيئاً فشيئاً تفقد الحياة معانيها الأعمق، ونعيش لمجرد أننا لسنا ميتين، ما أحوجنا حينها إلى شخص سبر أغوار الحياة يأتي ليربت على أكتافنا ويهمس لنا بنبرة هادئة «استمتعوا بحياتكم وكفى!». تقول إلينور روزفلت «الغرض الرئيس من الحياة هو أن نحيا، أن نتذوق التجارب إلى أقصى حد ممكن، أن نندفع بحماسة ومن دون خوف نحو تجارب جديدة وغنية». يعتقد البعض أن التجارب الجديدة خُلقت لعمر معيّن فحسب، وأنه من الخطأ، بل وأحيانا المُعيب، أن نجرّب شيئاً جديداً كلما تقدم بنا العمر، بل إن الحكمة، بالنسبة إلى هؤلاء، تقتضي أن نكتفي بتجاربنا القديمة، ننام ونصحو عليها، ونحدّث الآخرين عنها بنشوة المحاربين القدامى! نسي هؤلاء أن للحياة قلباً نابضاً لا تغذيه سوى تلك الدماء الحارة المندفعة من تجارب اللحظة، والشخص الذي يتوقف عن تجريب الحياة لا يختلف كثيراً عن الجسد الميت سريرياً! «عليك أن تملأ حياتك بالمتعة والبهجة، فما وُجدت الحياة إلا كي نستمتع بها، وليس لمجرد أن نكافح فيها» جوردن هنكلي. هناك من الناس من ينظر إلى الحياة على أنها معركة إثبات وجود يخرج منها إما منتصراً أو مهزوماً مدحوراً، فتجده يُفني عمره في إعداد العدة لذلك اللقاء المرتقب الذي لن يحدث يوماً، ويضع جانباً أو على قائمة الانتظار كل مشاريع الفرح والبهجة والإقبال على الحياة، هؤلاء يمر العمر أمامهم كشريط سينمائي سريع بلا ألوان، يعيشون ولا يحيون، وشتّان بين المعنيين. في الحياة الكثير مما يستحق أن نراه ونلمسه ونتذوقه ونسمعه، فلماذا يختار البعض أن يعيش حياته كالأموات؟ يقول هانس كرستيان أندرسون «استمتعوا بحياتكم، فهناك الكثير من الوقت الذي ستقضونه ميتين!». [email protected]