2013-08-19
كان من تقاليد سلاطين الدولة العثمانية حين تولي السلطة القيام بتصفية كل من يصلح أن يكون منافساً للسلطان الأعظم حاضراً أو مستقبلاً، ولقد ابتدع هذه البدعة السلطان بايزيد الأول حين قتل أخاه خنقاً ليصفوا له حكم الدولة، ثم بلغ الأمر ذروته حين قام السلطان محمد الثالث عام 1595م بدفن 19 من أخوته في نفس يوم موت أبيه، وقد نسب هذا العمل «الهولوكوستي» إلى السلطان محمد الفاتح وأشيع أنه قتل أخاه الرضيع من باب الاحتياط، إلا أن سيرة هذا السلطان في سلمه وحربه تتنافى مع ما أشيع عنه، ما جعل بعض المؤرخين يشككون في صحة هذه الواقعة.
لقد أورد الشيخ مرعي الحنبلي في كتابه (قلائد العقيان في فضائل آل عثمان) مسألة قتل السلطان لأخوته ضمن الفضائل العثمانية وكان يرى أن ذلك وإن كان ينفر منه الطبع السليم، لكن فيه خيراً كبيراً ونفعاً كثيراً وفي نهاية كلامه يشعرك الشيخ مرعي بتردده في إباحة هذه المكرمة ويعترف أنه (لم يظهر له جواز هذا الفعل على سبيل الإطلاق لأن المقتولين أطفال لاذنب لهم فترك القتل في مثل ذلك أليق) أي إنه يباح عند الحاجة والضرورة وليس على الإطلاق.
كان الفيلسوف الإيطالي «بيكو» يرى أن أرسطو يسير على الطريقة العثمانية في رؤيته للواقع من حوله، فالسلطان العثماني كان يرى أنه لا يستطيع أن يحتفظ بالحكم إلا إذا قتل جميع إخوته، وأرسطو كان يرى أنه لا يستطيع إثبات صحة رأيه إلا بقتل الآراء التي سبقته حتى تخلو له الساحة من المعارضين.
ولقد تفشت هذه العادة العثمانية لدى البعض حتى صار بينهم من يرى أنه لن ينجح ولن يتقدم ولن يصبح نجمة ساطعة في سماء الإبداع إلا بإسقاط العالمين وإظهارهم بمظهر الخائنين فيصبح همه البروز بأي وسيلة ميكافيللية كانت ولو كان ذلك على حساب انتقاص الناس أجمعين فيشكك في نية فلان، ويطعن في ذمة علان، ويبذر بذور الفرقة بين كل من يظن أنهم عقبة في طريقه إلى مجده.
وهؤلاء لن يألوا جهداً في إيجاد شماغ أو عمامة تبرر لهم أفعالهم كما حصل مع السلطان العثماني في صراعه مع إخوته، فصار مبلغ علمهم تصنيف الناس على حسب ولائهم لأفكارهم المقدسة، ومشكلة هذه الفئة الباغية على نفسها أنها ترى نفسها الفرقة المحتكرة للحقيقة المطلقة التي لا تقبل القسمة على اثنين، وهذا يذكرنا بمحنة «كوبرنيكوس» مع الكنيسة الكاثوليكية، حيث إن المسكين لم يقل أكثر من أن الشمس هي المركز وأن الأرض هي التي تدور حولها كالتابع مخالفاً نظرية الكنيسة التي جزمت بأن الشمس هي التي تدور حول الأرض.
لا يهم كثيراً من كان على صواب في ذلك العصر لأن الخلاف لا يعدو أن يكون فلكياً بحتاً، لكن الكنيسة أقامت الدنيا ولم تقعدها وسعت إلى عصمة رأيها بنسبة هذا القول إلى الإنجيل حتى يكون الراد عليها كالراد على الله، ورأت في هذه المسألة الفلكية كسراً لصنم جبروتها، فلفقت تهمة التبشير للوثنية وعبادة الشمس على كل من اعتقد بمركزية الشمس والتي كانت عقوبتها عدم رؤية الشمس مرة أخرى.
إن النظرة بعين «إما أبيض وإما أسود» ستحجب عنا الكثير من الحقائق الواقعة في الجانب الرمادي الذي يقع بينهما، فكثير من «خلافياتنا» يكون فيها الحق نسبياً ينطبق عليه قول الإمام الشافعي (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)، ولا يمكن معاملة الحقائق كلها على منوال واحد، فقوة الحق درجات ووهن الخطأ دركات.
بإمكانك عمل أمور كثيرة في حياتك من دون أن تسقط من سبقك أو من عاصرك أو من سيأتي بعدك، فبإمكانك أن تبدع في اللغة دون أن تهمز سيبويه، وأن تسرد الشعر من دون أن تلمز المتنبي، وأن ترسم من دون أن تنتقص بيكاسو، وأن تنحت من دون أن تنهش مايكل أنجلو، وأن تقترح قانوناً في الميكانيكا من دون أن تغتاب نيوتن، وأن تحل مسألة في الفيزياء الكونية من دون أن تفتك بأينشتاين، وأن تخترع مضاداً حيوياً من دون أن تستهين بإبداع ألكسندر فليمنغ .. فالحياة أرحب من أن تضيق بها فكرتان وأضيق من أن تذبح فيها المذبوح مرتين .. وفيها فليتنافس المتنافسون.
للتواصل مع الكاتب
[email protected]