السبت - 21 ديسمبر 2024
السبت - 21 ديسمبر 2024

مختصر سيرة المضاد

كم كانت مصادفة جميلة جداً التي قادت «ألكسندر فليمنغ» لاكتشاف «البنسلين» الذي يعد أول مضاد حيوي رسمي في تاريخ البشرية، كان «فيلمنغ» مرهقاً من العمل المضني في المختبر فقرر أخذ إجازة أسبوعين من العمل، هذان الأسبوعين غيرا مجرى البشرية تماماً والفضل يرجع لهذه الصدفة المحضة. فعندما عاد الرجل من سفره اكتشف أن مادة غريبة أطلق عليها اسم «البنسلين» نمت في صفائح الآغر التي تركها تتعرض إلى حرارة الغرفة العادية. أدى هذا الاكتشاف إلى خلق جحيم للبكتيريا التي كانت تسرح وتمرح في أجساد البشر على مر التاريخ، ولا تجد من يوقفها عند حدها، في ذلك اليوم انقلبت المعادلة وصار الإنسان يفتك بالبكتيريا المهاجمة أينما وجدت سواء في الرئة أو القلب أو الجلد أو الدم أو الأمعاء، لكن لم تدم الفرحة طويلاً حتى تمكنت بعض البكتيريا من إنتاج سلاح ردع مقاوم أدى إلى مقاومة البنسلين. لم ييأس علماء «المايكروبيولوجي» وخبراء الأدوية فأخذوا يطورون مضادات أخرى تعمل بطرق هجومية مختلفة. وكلما حطمت البكتيريا أسلحتنا التقليدية استخدم العلماء تكتيكات هجومية أخرى. يقول الفيلسوف البريطاني «برتراند رسل» في كتابه (أثر العلم على المجتمع) إن الناس في القرن الـ 18 كانوا يتوقعون موت معظم أطفالهم قبل أن يصلوا إلى مرحلة البلوغ، ثم باكتشاف التلقيح ابتدأ الإصلاح الحقيقي، ففي عام 1948 كانت نسبة الوفيات في بريطانيا 34 في الألف بعدما كانت 80 في الألف في عام 1920. واليوم يجب أن نضيف المضادات الحيوية إلى مشروع الإصلاح الصحي الذي ذكره «رسل» لأنه كان نقطة مفصلية في تاريخ البشرية. مجدداً صار مستقبل البشرية في خطر حيث استنفذت جميع الوسائل القتالية مع البكتيريا، وربما في السنين المقبلة لن نجد ما ندافع فيه عن أرواحنا وأجسادنا، فكثرة استخدام المضادات دون ضرورة ماسة تدفع البكتيريا إلى تطوير نفسها فتتحول إلى متمردة وقد تنشر هذه الروح العدائية بين مثيلاتها وهكذا يخسر المضاد الحيوي معركته أمام جبروت البكتيريا. الخطأ يبدأ من عيادة الطبيب حين يقدم بعض الأطباء خدمة «ما يطلبه المراجعون» بدلاً من تقديم «ما يثبته العلم»، فمثلاً ليس كل مرضى البلاعيم والجيوب الأنفية بحاجة إلى مضادات حيوية لأن الأغلبية الساحقة من أسباب هذه الالتهابات فيروسية لا يضرها المضاد قيد أنملة، لكن إصرار المريض على المضاد يدفع الطبيب - لاسيما في العيادات الخاصة - إلى تقديم المضاد طواعية حتى يكون مصدر الربح من جهتين: جهة المراجعة وجهة الصيدلية. وجهة نظر المريض التي نسمعها دائماً أنه يريد أن يكون في «السيف سايد»، لكن «السيف سايد» هذا قد يتحول إلى عواقب وخيمة، فالمضاد الحيوي ليس صديقاً للبيئة وليس صديقاً للإنسان بل هو قادر على قتل خنزير بري لوحده. فهو مستخرج من عفن الفطريات، وقد يسبب أعراضاً تتراوح بين الطفيفة - كالغثيان والإسهال - والخطيرة - كالفشل الكبدي والكلوي، علاوة على أنه مع كثرة الاستخدام غير المبرر قد نرى أبناءنا يموتون أمام أعيننا في العشرين سنة المقبلة بسبب التهابات بسيطة في زمننا كالتهاب الجلد والشعب الهوائية، وسننتهي إلى نقطة أننا لا نملك مضاداً حيوياً ناجعاً بسبب تفشي المقاومة بين صفوف البكتيريا. اليوم صرنا نرجع للطبيعة مجدداً بعدما استنفذنا طاقة المضادات الحيوية، فصارت بعض الالتهابات المعوية - التي تعالج الآن بالمضادات الحيوية - تعالج بزراعة البراز في الأمعاء المصابة أو باستخدام «البروبايوتكس» والتي هي عبارة عن بكتيريا صديقة تحارب معنا البكتيريا «المتصهينة»، وصار الباحثون أيضاً يبحثون تغطية أنبوب القسطرة ببكتيريا «الإي كولاي» لمنع حدوث الالتهابات في المجاري البولية مع أن هذه البكتيريا نفسها هي سبب رئيس لهذه الالتهابات. لكن السؤال الذي يؤرق علماء الطب، هل ستسعفنا هذه التقنيات المحدودة والملتوية وغير العملية؟ المستقبل بين أيديكم يا أيها السادة القراء، فكما تعلمون أبناءكم ترشيد الكهرباء والماء والمحافظة على البيئة والنظافة والخ الخ الخ، فبإمكانكم تعليمهم ترشيد استخدام المضاد الحيوي، فهو ثروة تحفظ حياتنا بكل ما تعنيه هذا الكلمة من معنى. قبل أن تأخذ المضاد الحيوي اسأل طبيبك (هل أنا فعلاً بحاجة إلى هذا المضاد الحيوي؟) للتواصل مع الكاتب [email protected]