2016-01-23
المدينة الفاضلة أشبه ما تكون بالهرم، في قمته رئيس المدينة وبين القمة والسفح توجد طبقات تتفاوت سمواً وانحطاطاً حسب (الفطرة الطبيعية التفاضلية) لذا نألف الفارابي في كتابه «فصول منتزعة» يقسم البنيان الاجتماعي إلى أجزاء خمسة:
ـ الأفاضل: وهم الحكام والمتعقلون وذوو الآراء في الأمور العظام، ومن كان في عدادهم.
ـ ذوو الألسنة: من خطباء وبلغاء وشعراء .. ومن جرى مجراهم.
ـ المقدرون: وهم الحُسَّاب والمهندسون والأطباء.
ـ المجاهدون: الجند والعسكر.
ـ الماليون: وهم مكتسبو الأموال من فلاحين ورعاة وباعة.
الركيزة الثانية: رئيس المدينة الفاضلة:
الركيزة الثانية التي تنبني عليها المدينة الفاضلة عند الفارابي هي: حسن اختيار الرئيس الذي يسوس ويسير شأن الوطن والمواطن.
ويمكن القول ابتداءً إنه عند تفتيشنا في كتب الفارابي نجده يولي عناية قصوى بالمؤهلات والملكات التي يجب أن يتصف بها كل من سيسند إليه أمر الرياسة. ففي كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة» عَدَّد الخصال التي يجب أن يمتاز بها الرئيس، وقسمها إلى قسمين، أحدهما أن يكون الرئيس بالفطرة والطبع معداً لذلك، والثاني أن تتوافر لديه الملكة الإرادية.
* الخصال الجبلية:
1. أن يكون تام الأعضاء.
2. جيد الفهم والتصور.
3. جيد الحفظ.
4. حسن العبارة.
5. محباً للتعليم.
6. محباً للخصال الجميلة من صدق وعدل.
7. لا يكترث بالدنيا والمال.
* الخصال الإرادية:
1. أن يكون حكيماً.
2. عالماً بالشرائع والسير.
3. جيد الاستنباط والرؤية.
4. أن يكون له صنعة حربية.
كل هذه الخصال وغيرها التي اشترطها الفارابي لا تخلو من ملاحظات:
ـ إن هذه الشروط/ الخصال من العسر اجتماعها في رئيس واحد، لذا يقترح الفارابي أنه إذا توافرت هذه الشروط في شخصين (أحدهما حكيم والثاني فيه الشرائط الباقية، كانا هما رئيسين في هذه المدينة، وإذا تفرقت هذه في جماعة وكانت الحكمة في واحد والعِلمِية في واحد والاستنباط في واحد، وكانوا متلائمين كانوا هم الرؤساء الأفاضل).
ـ إن الفارابي خلط بين نظام الحكم الأرستقراطي، حيث يكون الحكم للنخبة، ونظام الحكم الملكي، حيث يكون الحكم لفرد مطلق، فالملاحظ أن الفارابي تأثر بالفكر السياسي الأفلاطوني. فأفلاطون يعتبر أن النظام المثالي هو النظام السوفوقراطي الذي يكون فيه الحكم للفلاسفة والحكماء، وقد يكون لهم رئيس واحد أو أكثر. ويدرج أفلاطون هذا النظام تحت النظام الملكي، بقوله «إن الارتباط ليس حتمياً بين النظام الملكي وحكم الفرد، إذ يمكن أن يكون الحكم في يد عدد محدود ومع ذلك يُعَدُّ ملكياً». أصول الفكر السياسي، ثروت بدوي 1/197.
ـ الملاحظة الثالثة أن الفارابي ربط بين السياسة والمعرفة، وهذا ما ذهب إليه ـ أيضاً ـ أفلاطون، حيث يعتبر أن سياسة الدولة أمر صعب ولا يستطيع القيام بها سوى أهل العلم والمعرفة أي لمن توافرت لديه الفضيلة. ويظهر الارتباط بين السياسة والفلسفة/ الحكمة واضحاً في قوله «لا يمكن زوال تعاسة الدول، وشقاء النوع البشري .. ما لم تَتَّحِد القوتان السياسية والفلسفية في شخص واحد، وما لم ينسحب من حلقة الحكم الأشخاص الذين يقتصرون على إحدى هاتين القوتين» جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز ص 193.
إذاً فالصفات الرياسية التي اشترط الفارابي وجودها في كل مسير لدولة ما، هي التي تؤهله بمعية أناس فاضلين وأخيار بـ «وضع النواميس» والقوانين التي تنال بها السعادة القصوى.
وبهذه الصفات أيضاً يكون الرئيس/ الملك موزعاً للعدل بين رعيته، ذاك (العدل التوزيعي) الذي يقسم الخيرات المشتركة في الدولة على المواطنين لا على أساس (المساواة المطلقة الحسابية) وإنما على أساس (مساواة نسبية وِفْقَ جَدَارَة المواطن وأهليته) وحسب مهاراته ومردوديته.