2018-09-17
في مقالة تحليلية لطيفة وعميقة في الوقت نفسه يناقش البروفيسور البريطاني بول ساغار موضوعاً لطالما كان مادة خصبة في المخيلة الإنسانية، موضوع الخلود بمفهومه المادي، بما يحمله فكرة أن يتجاوز الإنسان محدودية وجوده الزمني، ليستطيع أن يعايش تعاقب الأزمنة ويتجنب هو ومن حوله مرارات الفقد والخسارات الناجمة عن ذلك الفناء السريع وما حولها، ولعل هذه المخيلة الثرية ذاتها هي ما جعلت الإنسان يبتكر لأجل تلك الغاية وسائل قد تفوق الغاية في قيمتها الضمنية، أو أنها قد تعقدها في أحيان أخرى.
في تناول فكرة تفوق المنجز الإنساني على قيمة الخلود نفسها، نجد أن الإنسان وهو يدرك قدره المحدود أخيراً ووجوده المادي المرتهن بهشاشة الجسد الذي يحمل المعنى بداخله فكرة ومخيلة، سعى إلى أن يخرج ذلك المعنى من فضائه الأثيري ليمنحه شكلاً ثلاثي الأبعاد، خلق الأسطورة وأبطالها الخالدين، رسم وابتكر الموسيقى وحقق في احتيال زمني لطيف، الخلود للمعنى بدلاً من الجسد الهش لكن هل اكتفى بذلك؟ هل روضت تلك الآثار التي تركها الأسلاف رغبته المتعطشة والمرتبكة في آن واحد تجاه البقاء الأبدي؟
تطالعك في هذه الفترة أينما التفتَّ تقريباً فكرة التكنولوجيا الذكية، الأجهزة اللوحية، الهواتف السيارات، المنازل، وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي، أقرب ما يكون لو نوينا الشرح بشكل مبسط منه إلى الذهن البشري المعد لتجميع المعلومات وتحليلها والاحتفاظ به وتعلم الانفعالات وتخزينها وإظهارها متى ما تطلب الوقت، هو ذهن حاضرٌ دائماً من دون أن يصاب بالتشويش المرتبط بالوهن والنسيان ومن دون أن ينقطع حضوره بالموت، إنه الشكل الأكثر تقانة للخلود، لكنه ليس خلوداً لبني البشر بل خلوداً موازياً يحقق لهم بعض الرضى، لكن إلى أي مدى قد يجعل الإنسان يتوقف عن المحاولة؟ أي إلى أي مدى قد يعوضه ذلك الخلود التقني عن الآخر الكامل، الذي يكونه هو بكامل لحمه ودمه.
خاتمة ساغار في مقاله عن الخلود تقول: إن محاولات الإنسان الحثيثة لتحقيق الخلود ستستمر طالما استمر عجزه عن اختيار الوقت الذي يريده لنفسه بكامل قوته على الأرض ليحقق كل ما يعتقد أن وقته المحدود لن يستطيع أن يمكنه منه، وسيبقى قائماً دائماً أمام رهبة حقيقة الموت، التي ليس له إنكارها، وليس له أن يهرب منها أيضاً إلا بالمحاولة التي يغذيها خوفه من المجهول، وفكرة فانتازية طفولية مهما حاول تنميقها اسمها «الخلود»، حتى وهو يمررها من خلال المنطق والتقنيات الذكية وما حولها.
[email protected]