الجمعة - 27 ديسمبر 2024
الجمعة - 27 ديسمبر 2024

المصور الأعمى

هناك صناعات هائلة تقوم على فكرة قولبة الجمال، لتمنحه الشكل الرائج الذي يجب أن يطوع الجميع ذوائقهم لتقبله، حيث يصبح كل ما هو خارج تلك المنظومة قابلا للاقصاء والرفض. يحدث ذلك في الوقت الذي نتحدث فيه نحن كثيراً عن الجمال باعتباره درجة من الدرجات التي قد تقود إلى الكمال، الحلم البشري المنشود على امتداد الزمن، ولكننا نغفل جزءاً شديد الأهمية هو أن القيمة الضمنية للكمال تكمن في اتساعه، في عدم القدرة على حصره في شيء واحد وفي رقم أخير، أنه شيء خارج المادة غير قابل لوضعه داخل نسق معين، يجعله روتينياً ولا شيء فيه قابلاً للمزايدة على عنصر الدهشة فينا. لعل هذه الفكرة وما انسل عنها كانت محور ما دار ببالي وأنا أتابع وثائقيا بعنوان الضوء المعتم تناول حياة مجموعة من المصورين الفوتغرافيين العميان، كلٌ وحكايته وكيفيه وصوله لعالم التصوير الفوتغرافي الذي يعتمد بالدرجة الأولى على الصورة المادية للجمال وفي عالم يعتمد كل ما فيه على فكرة الانجذاب البصري أضحت الصورة فيه هي مركز الابتذال الأول لفكرة الجمال العميقة، فكيف نجح هولاء؟ وكيف كان لهم أن ينتزعوا اعتراف العالم المحيط بهم كمصورين احترافيين لا هواة فقط؟ في الحقيقة، قدم كل مصور منهم إجابته الخاصة بناء على حالته والوقت الذي أصيب فيه بالعمى، والتقنية التي يستخدمها من قياس ترددات الأجسام والاعتماد على الوصف المحيط من مبصر قبل التقاط الصورة وغيرها، لكنهم جميعا اتفقوا على فكرة أنه حتى في عالم الصور المجردة، المعتمدة على الإبصار الكامل، هناك جزءٌ مخفي ونسبي ولا يرى إلا بالحس، تمثل لنا تلك الزاوية لنا نحن المبصرين البقعة العمياء المعتمة التي نحتاج لكشف ما فيها إلى تأمل عميق يتطلب تدريباً مكثفاً ومستمراً على فكرة الجمال اللامألوف، فيما كانت بالنسبة لهم هم بقعة الضوء، الالتقاطة المحسوسة التي تجعلهم يضغطون الزر ليوثقوا اللحظة الجمالية، لحظة لا تشبه ما نوجه إليه عنوة يومياً في زمن التسطيح والمباشرة، لحظة غامرة وغامضة ومحيرة وملتبسة، لكنها جميلة بشكل غير قابل للإنكار، يتلخص جمالها في وقوعها خارج كل ما هو مرتبط بالجمال اليومي المكرر والموجه في غالبه لخدمة أغراض تجارية، جمال يقترب من هشاشة الإنسان، ليكشف له عن وجه مبهج من روحه، لم يكن ليراه إلا بالقوة الإبداعية الكامنة لذلك المصور الأعمى، الذي وبعيداً عن الوثائقي، أراه كامناً في عمق كل فرد منا. [email protected]