هل فعلا تآكلت ذاكرتنا البشرية بفعل السيولة الرقمية التي نعيشها في هذا العصر؟وفق دراسة شملت ستة آلاف شخص فإن التدفق الرقمي والتكنولوجي يحقق نوعاً من الإلهاء الذي يمنعنا من تشكيل ذاكرة طويلة الأمد، ولكن ذلك لا يعني أبداً أن هذه الأزمة أي الإلهاء، أوجدتها التكنولوجيا الحديثة إذ إنها مشكلة أزلية عانت منها البشرية منذ قرون طويلة مما دعا أسلافنا إلى ابتكار طرق للاستعانة بها على الفقد والتلف الذي يمكن أن يطال أنسجتنا الدماغية المسؤولة عن احتضان الذاكرة.«هذا العصر ليس له مثيل في اختراع أشياء من شأنها أن تسهل الاستعانة بمصادر خارجية لتعزيز ذاكرتنا على مر التاريخ البشري» يقول فرانسيس أوتاش مؤلف كتاب «ذاكرتي والآخرون»، ولكن هل هذه الأشياء معززة لامتدادنا الإنساني وملاحمنا وتاريخنا الذي تساهم في صناعته الأزرار والنقرات أم أنها مقوضة لكياننا الكلي القائم على الذاكرة؟وإذا كانت الكتابة كما يعرفها أفلاطون الترياق والسم إذ أنها بالنسبة له تصحح أخطاء الذاكرة وتضعفها في آن، فبم يمكن أن نصف المساحات التي تتيحها لنا الشاشات «حاملة» حياتنا بكل تفاصيلها العملية والحميمة؟لم تعد الكتابة والسينما والتسجيلات الصوتية هي وسائلنا التوثيقية الوحيدة، خصوصاً بعد أن صارت فكرة المختصر المفيد والمقاطع الثانوية، نسبة إلى الثانية، وغيرها سيدة المحتوى المتبادل بيننا كبشر، فنحن اليوم نطمح لتحديث وتكبير المساحات التخزينية في الفضاء، وكل قصصنا التي نساهم في صناعتها - أقول نساهم ولا نصنع بالكامل – هي معلقة في غيمة افتراضية عليها أقفالها الرقمية التي لفرط اعتمادنا عليها نحتاج بين الحين والآخر ما يعيننا على استعادة رموز فتحها السرية.ضحكات أحبائنا، تسريحة شعرعائدة إلى السبعينات، قصاصة في جريدة لحدث يعني لنا الكثير، هي أمور كانت الصناديق المعدنية المعاد استخدامها تمثل لها المخبأ الأمين، لكنها اليوم تحولت إلى أشياء مصنعة كغيرها الكثير مما لا طعم له ولا رائحة ولا ذاكرة حقيقية، بل إلى سلع تجارية تتسابق الشركات التي تمتلك المساحة التخزينية الافتراضية على مقايضتها.إذا كان البشر يشكون سلطة ذكرياتهم المؤلمة في زمن سابق، فهاهم اليوم يعانون فقداً حقيقياً لهذه الذكريات بعد أن تعرضوا لسلطة شروط الغيمة الرقمية التي استولت على سيرهم الذاتية وذاكراتهم التصريحية.s.alshehi@alroeya.com