تقول العرب «أعذب الشعر أكذبه» فكلما أغرق الشاعر في الكذب؛ جاء بالعجائب من الأفكار والصور الشعرية الفريدة والمثيرة للإعجاب. لكننا كمسلمين أغلبنا توقف عن التماهي مع هذه الفكرة بعد قول الله تعالى في سورة الشعراء ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ﴾. لكنني وبعد تأمل؛ أعتقد بأننا حُرمنا متعة تذوق تلك الخيالات الساحرة بسبب اختلاط المفاهيم. فهناك فرق بين الشعر المذموم، حيث يكذب الشاعر ويفتري على أحد ويشوه سمعته؛ وبين الشعر الممدوح حيث يبدع قائله من خلال صور شعرية وكنايات بديعة نعلم يقيناً أنها ليست حقيقية، لكنها لا تطعن في أحد، بل تنفخ الروح في الكلمات، وتمنحنا فرصة النظر إليها من زوايا جديدة ومعانٍ فريدة.
لكن ما هو أثر الكذب في تشكيل الوعي الجمعي في مجتمعات ما بعد ثورة وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث تلاشت جماليات الكلمة ومعانيها العميقة وخيالاتها الساحرة، وبقيت مساوئها ووجهها الكالح؟! لكن ما زال لتلك الكذبات مريدوها و«الغاوون» المخلصون في نشرها! تلك هي النتيجة التي توصلت إليها أبحاث معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) ونشرت في مجلة «Science» حول ظاهرة انتشار المحتويات الزائفة بوتيرة أسرع من المعلومات الصحيحة عبر موقع التواصل الاجتماعي «تويتر». حيث تم تحليل مضمون 126 ألف تغريدة باللغة الإنجليزية نشرت بين عامي 2006 و2017 . وخلص الباحثون إلى أن المحتويات الزائفة لديها فرص انتشار بنسبة تتجاوز 70 في المئة مقارنة بالحقيقية، وللمواضيع السياسية نصيب الأسد من تلك الأكاذيب.
يرجع الباحثون في هذه الدراسة وغيرها، أن سبب سرعة انتشار الأكاذيب ليست البرمجيات الخبيثة التي تنتحل صفة شخصيات طبيعية، ولا أيضاً ما يعرف بـ «الذباب الإلكتروني»، بل بسبب أشخاص طبيعيين، لأن «ردة الفعل لدى المتلقي تكون أكثر تأثراً وعاطفية إزاء الأخبار المفاجئة أو الصاعقة، أو تلك المشحونة بالكراهية. كما أن الشخص الذي يكون لديه موقف معين من مسألة ما، يشعر بأن هذا الخبر يؤكد وجهة نظره، ولا ينتبه لكون الخبر كاذباً». كما أنها لا تحتاج إلى كثير عناء لاختلاق الأدلة الداعمة والزائفة بعكس الأخبار الحقيقية.
أغلب الدول تسعى لمواجهة الأكاذيب التي أثرت حتى في انتخاباتها؛ لكن لإيطاليا تجربة رائدة، ليس عبر القوانين والأجهزة الرقابية وبرمجيات تدقيق للمعلومات فحسب؛ بل والعمل على «محو الأميّة الإعلامية» عن طريق المناهج التعليمية، وتحصين الشعب وتوعيته بطرق معرفة الحقيقة ولو كانت مرة، من الكذب ولو كان عذباً.
استشاري ومدرب في القيادة والإبداع
a.alzarooni@alroeya.com