يتزايد التوجّه العالمي نحو القارة الأفريقية في خِضمِّ منافسة من قُوى كُبرى، فيما لا تزال فرنسا خلال عهد الرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون تسعى بشدة لتثبيت موطئ قدمها داخل القارة السمراء، إذ جاء تعيين وزيرة الخارجية الجديدة، كاثرين كولونا، ليبرهن على هذا التوجّه، ومحاولة لإصلاح ما أفسده ماكرون خلال فترة رئاسته الأولي، في ظل استدارة عالمية نحو قارة المستقبل.
الزميل الباحث في إدارة السياسة والعلاقات الدولية بجامعة أوكسفورد، الدكتور كورنتين كوهين يقول إن رؤية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الخاصة بالشراكة المتبادلة مع أفريقيا لم تنجح، رغم سعي ماكرون منذ تولّيه منصبه إلى اتّباع سياسة تضمن إعادة التواصل بين فرنسا وأفريقيا، عبر إحياء التواصل الدبلوماسي مع كافة دول أفريقيا في محاولة لمحو آثار الاستعمار الفرنسي داخل الدول الناطقة بالفرنسية.
ويوضّح في دراسة خاصة عن سياسة فرنسا تجاه أفريقيا، أن المكانة المتزايدة لدول ليست غربية مثل الصين، أتاحت فُرصاً دبلوماسية أمام الدول الأفريقية لتحقيق مصالح أكبر عبر إقامة علاقات متوازنة وسط تنافس دبلوماسي تشكّله قُوى كُبرى بشكل متزايد أملاً في كسب مساحة داخل قارة المستقبل.
رسالة واغادوغو.. المغزى
ويشير كوهين، المهتم بالاقتصاديات السياسية لغرب أفريقيا، ووسط أفريقيا، وأمريكا اللاتينية، إلي أن اتباع ماكرون إستراتيجية عبر تعزيز رؤية دبلوماسية فرنسية مع أفريقيا من خلال ضخِّ المزيد من المساعدات ودفع العلاقات بين الفرنسيين والأفارقة على أساس روح من الشراكات، لم تحقق هدفها الخاص بتعميق العلاقات الاقتصادية والأمنية بطرق ترتقي إلي التوقعات المنتظرة، الأمر الذي يتعيّن معه إلقاء نظرة جادة على ما تمّ إنجازه بشكلٍ جيد وعلى الذي ما زال من الممكن تحسينه للحفاظ على زخم طموحات ماكرون بالنسبة للعلاقات الفرنسية مع الدول الأفريقية.
وأعاد إلى الأذهان ما قام به الرئيس الفرنسي أثناء جولة دبلوماسية في أفريقيا خلال فترة رئاسته الأولى، إذ وجّه رسالة مفاجئة لطلبة الجامعة في العاصمة واغادوغو، ببوركينا فاسو، قال خلالها إنه لا توجد صفحة يتم طيّها مع أفريقيا معاكساً بذلك نهج معظم رؤساء فرنسا قبله، بل عاد ليؤكد أن هناك عهداً جديداً للعلاقات بين فرنسا وأفريقيا قد بدأ، وأن هناك حاجة لِأنْ يعيد الطرفان تحقيق علاقاتهما السياسية، والاعتراف بتاريخهما المشترك، مشيراً إلي أن إحدى العقبات التي حالت دون تحقيق ماكرون مأربه، فشل السياسة الأمنية الفرنسية في منطقة الساحل، بالإضافة إلي عدم وضع طرق فعّالة للقضاء على التطرف، لذا يتعيّن على ماكرون الاستفادة من القيود السابقة التي تعرّضت لها السياسة الفرنسية في أفريقيا ودراستها لإضفاء ما يمكن من تحسينات، مشدداً على أن فرنسا لديها فرصة تستطيع توظيفها تتمثل في رئاستها للاتحاد الأوروبي، ما يمكّنها من إقامة شراكات سياسية طويلة الأمد بين فرنسا والدول الأوروبية الأُخرى من جهة، وبين الدول والمجتمعات الأفريقية من جهة أُخرى، إلي جانب تشجيع الدول الاستعمارية السابقة الأُخرى داخل الاتحاد الأوروبي على أن تفعل نفس الشيء، بهدف تطوير الشراكات في أنحاء القارّة لإرسال الطلاب للدراسة والعمل في أفريقيا.
الولاية الثانية لماكرون..
الولاية الثانية لماكرون ربما تشهد تغييراً، في ظل احتياج كل طرف للآخر، ورغم التاريخ الاستعماري لفرنسا فإن القارة قد تنظر لمصالحها التي قد تكون فرنسا أحد الأطراف المحققة لها، إذ يمكن لفرنسا مساعدة الدول الأفريقية على تعزيز إمكانياتها النقدية، بالإضافة إلى توسيع نطاق الاستثمارات والمساعدات لا سيّما في المجال الصحي، إلي جانب ذلك يمكن لباريس دعم حوار نزيه عن دور الفساد والتهرّب الضريبي الذي يحرم الدول الأفريقية من مليارات الدولارات من العائدات كل عام، فضلاً عن تطلع ماكرون لحلحلة الأزمة مع مالي، وفيما يتعلق بالعلاقات بين الفرنسيين والأفارقة، فإنه في ضوء ماضي فرنسا الاستعماري وكشكل من أشكال التعويض الاستشرافي، يمكن لفرنسا إتاحة الفرصة لشباب ومواطني المستعمرات السابقة الالتحاق بنظام التعليم العالي الفرنسي بنفس الشروط المالية التي يتمتع بها المواطنون الفرنسيون والأوروبيون.
ويقول كوهين في ختام دراسته أن فترة رئاسة ماكرون الثانية فرصة مناسبة لإعادة تصور تواصل فرنسا الدبلوماسي مع الدول الأفريقية، ورغم أن ماكرون أظهر رغبة واضحة في تعويض أخطاء الماضي، ما زالت بعض أوجه طموحات سياسته غارقة في أساليب عفا عليها الزمن في التعامل، ومن ثَمَّ فإن تحديد الأساليب التي نجحت، والأُخرى التي لم تنجح، خطوة أساسية نحو ضمان تعزيز فرنسا لنفوذها القوي لتحقيق شراكات على قدم المساواة ومكاسب متبادلة بالنسبة للدول الأفريقية.
لماذا كاثرين كولونا؟
الكاتب والمحلل السياسي، علي عبداللطيف اللافي أكّد في تقرير حديث، أن ماكرون وضع في اعتباره عند اختيار وزير الخارجية، كاثرين كولونا، هدفاً ينطوي على محاولة إصلاح العلاقات بين بلاده والقارة الأفريقية التي تجاهلها أسلافه منذ عقود، غير أن إصلاح تلك العلاقة تواجه ضبابية، لا سيّما في ظل التوتر الدبلوماسي الذي لم يهدأ بين مالي وفرنسا، ما يثر تساؤلات عن مدى قدرة سياسات ماكرون وكلونا لترميم العلاقات في ظل استدارة عالمية كاملة نحو أفريقيا؛ كونها قارة المستقبل، وتنامي نفوذ قُوى عُظمى دولية داخلها.
ويوضح أن ماكرون حاول خلال فترة رئاسته الأولى إحياء تواصل بلاده الدبلوماسي مع الدول في أنحاء أفريقيا، بهدف القيام بمعالجة ما خلّفه الاستعمار الفرنسي في الدول الناطقة بالفرنسية، خاصة في ظل نجاح قُوى أُخرى في التسلل إلي القارة وترسيخ نفوذها على غرار الصين، ورغم أن جهوده ساهمت في تجديد العلاقات، فإنها قوبلت بقصور بيروقراطي وتعقيدات من داخل الدوائر السياسة الخارجية، التي أدّت إلى تباطؤ تحقيق سياسات ماكرون، فضلاً عن أن الأزمات التي تعيشها فرنسا مع مالي تضع علاقات فرنسا مع دول أفريقية تحت المجهر، مشدداً على أنه لا تزال أمام فرنسا معضلة حقيقة تكمن في ضرورة التماشي مع اللاءات الأمريكية الثلاث في أفريقيا وتحديداً داخل دول الساحل «لا لوقف النفط – لا لمهادنة التنظيمات الإرهابية – لا لتنامي النفوذ الروسي، خاصة عسكرياً».