يحدث أن تجد أسفل عين شخصٍ ما توقيع أرقٍ بالخط الأسود العريض، هذا السواد الغريب سيكشف لك تفاصيل عن كائن مريض، فتتساءل لعله تأرَّق لافتقاده لعبة حبٍ خاسرة، أو لعله أدمن على تلقّي صفعات خيباتٍ كاسرة، أو اندمج في لحظات يأسٍ عميقة ومخيفة وآسرة، لتكتشف أنه فعلياً لا يحتاج إلّا لصوتٍ يخبره بأنه سيكون بخير وإن لم تكن تلك الحقيقة! وياحبذا لو تناول فنجاناً من القهوة التركية الممزوجة بالموسيقى، عندها فقط سينام بعمقٍ فوق إحدى درجات السلم الموسيقي، ولربما سيستيقظ في اليوم التالي نشيطاً ويمسي صديقك أو صديقي! هنا سنتأكد أن الــ(قـــلــق) ليس مجرد «قافين» وبينهما حرف «لام»، ولا مجرد حرف «لام» يتوسط «قافين»، ولا حتى كلمة تُقرأ من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين، وإنما صوت دمعة مكبوتة بشدة من كثرة الأسى والحنين، تصدر صوتاً خفياً غير مسموع إلى حد ما يشبه الأنين، كما لا يستطيع أن يسمعه أحد في أي وقت وأي حين، إلا من خلال موهبة ربانية عظيمة اسمها التلحين.
استيقظ (جون داولاند) في الحياة ونهضَ، ليكون أحد أهم فناني عصر النهضة، مؤلف موسيقي وملحن إنجليزي ومغنٍّ وعازف عود، استطاع أن يعزف بمهارة فائقة في القيام والقعود، فقد كانت أشهر آلة في أوروبا في نهاية القرن الـ16، ولم يستطع أن ينافسه أحد آنذاك رغم كونه حسن المعشر، وبالرغم من ذلك لم ينجح أبداً في نيل منصب أراده في البلاط بشدة، وفشل فشلاً ذريعاً شعر به بكل حدة، متناسياً مدى نجاح مهنته ومهاراته الموسيقية في الخارج، حيث كان يرنو بشغف أن ينال ذاك المنصب في الداخل، ولعل السبب يرجع إلى كاثوليكيته التي تحول لها أثناء إقامته في فرنسا، ما أعاق تعيينه بين الإنجليز وجعله عبرة ودرساً لا ينسى، الأمر الذي صنع منه رجلاً ساخطاً شديد الانفعال ويعتبر حزنه هو الماء والقوت، وهذه حقيقة انعكست في موسيقاه التي ركزت بشكل هوسي على الحزن والموت، ولم يتكتم على أسباب حنقه الواضح أو اكتئابه السريري، كما تجاهل من قال إن: «لمسته السماوية على العود تنتهك الحس البشري».
أغلب مقطوعات (جون داولاند) حزينة ومعقدة وعلى وتيرة بطيئة إلى حد كبير، إلا أنها تحمل جميع تعابير الشذى والعبير، ودائماً ما تحمل عنواناً يتناسب مع مزاجه مثل (سيلي يا دموعي، وفي الظلام دعني أسكن، واذهبي أيتها الدموع البلورية).