في عالم المال والأعمال من الصعب أن يكون الإنسان واضحاً على الدوام، وقد يكون من المفيد في كثير من الأحيان أن يخفي حقيقة ما يمر به من مكاسب وخسائر، وأفراح وأحزان، لأن الشفافية الكاملة قد تترتب عليها نتائج وخيمة، لا يتمنى أي تاجر أن تقوده الأقدار إليها.
تحضرني هنا قصة كان والدي رحمه الله يسردها على مسامعي على الدوام، وذلك لعمق معناها وتعدد دلالاتها، تحكي عن تاجر معروف كان يتنقل ببضائعه ما بين موانئ الخليج والهند وشرق أفريقيا، وفي إحدى الرحلات غرفت سفينته، وتمكن من النجاة برفقة بعض البحارة.. وعندما سأله البحارة: «إلى أين سنذهب الآن؟».. أجاب بحكمة التاجر الخبير: «سنكمل طريقنا إلى الهند»، فاندهشوا من إجابته، وقالوا: «ولماذا نذهب، والسفينة غرفت بحمولتها؟».. فقال: «السفينة غرقت في منتصف البحر، ولا أحد في الهند يعلم بأمرها.. أما أنا، فلم تغرق سمعتي بعد!».
فور وصوله إلى الهند، قصد التجار الذي يعرفونه جيداً، ويثقون به، وأخذ منهم بضاعة جديدة، واستأجر سفينة أخرى، وأكمل جولته المعتادة، دون أن يعلم أحد بأمر خسارته الفادحة".
كان والدي يُعقّب على الحكاية بعد أن يختمها، قائلاً: «لو عرف التجار في الهند بأمر خسارة هذا التاجر، لترددوا كثيراً في منحه بضاعة جديدة بالأجل، وسفينة كاملة التجهيز.. لأن المال عزيز على أصحابه، والتاجر الذي يتكبد خسارة فادحة يفقد الكثير من سمعته، ويتحول شعور الموردين ناحيته من ثقة وتقدير إلى تعاطف وشفقة، والفارق بين الشعورين شاسع».
لا أبالغ لو قلت إن هذه الحكاية أفادتني في حياتي كلها، وليس التجارة فحسب.. لأن الانكشاف التام أمام الناس شكل من أشكال الحماقة والضعف، واستجداء تعاطفهم ومواساتهم العابرة يخصم كثيراً من رصيد الإنسان في عيون المحيطين به، وينقله من خانة الأقوياء الناجحين، إلى خانة الضعفاء الغارقين في إحباطاتهم.. فالتجمل بالقوة وعلو الكعب مهارة، لا يدرك أهميتها إلا الأذكياء وأصحاب الحكمة.
ولو تأمل الواحد منا نظرات المحيطين به، من زملاء وأصدقاء وأقارب، سيرى فيها الكثير من الأحزان، لكنها مخفية في أعماق القلوب، اختار أصحابها أن يحتفظوا بها بعيداً عن المتطفلين، وعندما يسألهم أحد عن حالهم.. يكتفون بعبارة واحدة: «بخير، والحمدلله»، وهي عبارة فيها من الرجاء والتوكل الكثير، وهذا ما نحتاجه في أوقات حزننا وضعفنا.. الرجاء والتوكل.