الأجواء تبدو هادئة في «ميكس ماركت» ببرلين. في المتجر الروسي الكبير بحي مارتسان في العاصمة الألمانية تسمع أغاني باللغة الإنجليزية، وترى عملاء يبحثون عن أطعمة روسية مختلفة. داخل المتجر لا يريد أحد تقريباً التحدث عن الحرب في أوكرانيا، ناهيك عن ذكر اسمه.
تقول امرأة مسنة من روسيا تعيش في حي مارتسان: «أنا وعائلتي خائفون... قالت لي ابنتي إنه لا ينبغي أن أتحدث الروسية في القطار». ورفضت المرأة ذات الشعر القصير الداكن الكشف عن اسمها.
منذ بدء الصراع الروسي الأوكراني، تم الإبلاغ عن أعمال عدائية متكررة ضد روس يعيشون في ألمانيا. وفي نهاية الأسبوع الماضي، طالبت السفارة الروسية الحكومة الألمانية بإرسال إشارات سياسية ضد التهديدات المتزايدة ورسائل الكراهية والهجمات. وفي المقابل، هناك عدد غير قليل من الروس في ألمانيا ينظرون بانتقاد للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهم يشعرون بالارتياح الشديد لكونهم آمنين في ألمانيا.
يقول الصحفي الروسي ميخيل كاليوسكي، الذي يعيش في برلين مع عائلته منذ عام 2015 «من الواضح أن بوتين قد أصيب بجنون تام». وكانت وكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) تحدثت معه قبل أسابيع عن أسباب مغادرته روسيا، والتي عزاها إلى القومية المتطرفة عقب الضم الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2014، والضغط على المعارضة، والعداءات التي وُجهت ضد عمله على مشروع مسرحي في موسكو. يقول كاليوسكي الآن إنه يريد أن يبعث برسالة واضحة إلى ألمانيا: «هناك روس يعارضون سياسة بوتين».
وفي الأيام القليلة الماضية، استقبل كاليوسكي وزوجته صديقة أوكرانية وابنها بعد مغادرتهما كييف بدافع الخوف قبل وقت قصير من اندلاع الحرب. يقول كاليوسكي إن كليهما غادر ألمانيا الآن متجهين إلى مقصد آخر، مضيفاً أنه لا يزال يتلقى طلبات بالاستقبال من أصدقاء ومعارف أوكرانيين فروا من الحرب، وكذلك أيضاً من روس يريدون الخروج من إمبراطورية بوتين.
وأشار كاليوسكي إلى أنه نظراً لعدم وجود أي رحلات طيران تقريباً، يسافر هؤلاء عبر إسطنبول أو دبي، ويرتادون القطار أو الحافلة عبر فنلندا أو دول البلطيق.
يقول الرجل البالغ من العمر 54 عاماً إنه منشغل على مدار الساعة بهذه الحرب، ولم يواجه بعد توترات مع ألمان أو حتى مع أوكرانيين في برلين، مضيفاً أن ابنه البالغ من العمر 12 عاماً لم يتحدث عن تعرضه لشيء من هذا القبيل في المدرسة، مشيراً في المقابل، إلى أن معارف له أخبروه أنهم يمتنعون الآن عن التحدث بالروسية في الأماكن العامة.
ويبدو أن هذا القلق له ما يبرره. فبحسب مسح أجرته شبكة «إيه آر دي» الألمانية الإعلامية، سجلت وزارات الداخلية ومقار الشرطة في جميع أنحاء ألمانيا جرائم ضد أشخاص ناطقين بالروسية منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، بما في ذلك هجمات فردية وإلحاق أضرار مادية ضد متاجر روسية، مثل تلطيخ واجهات العرض.
ذكرت السفارة الروسية في برلين في نهاية الأسبوع أنه في غضون ثلاثة أيام فقط شكا مئات الروس في ألمانيا من تلقيهم تهديدات ورسائل كراهية، إلى جانب تسجيل أضرار بسيارات تحمل لوحات روسية والتعرض لشتائم وتنمر واعتداءات جسدية. وبحسب وكالة الأنباء الروسية «إنترفاكس»، أرسل السفير الروسي سيرجي نيتشايف مذكرة إلى وزارة الخارجية الألمانية وطالب بـ«إشارات قوية من الحكومة الألمانية» إلى السلطات في الولايات والمدن والبلديات «لإنهاء هذا التمييز».
من الواضح أن الساسة الألمان يأخذون التقارير على محمل الجد، حيث انتقدت وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» قبل أيام الأعمال العدائية ضد مواطنين روس أو بيلاروسيين.
ومن المتوقع أن تزداد الحساسية بالنسبة للروس في ألمانيا مع استمرار الحرب وقدوم المزيد من اللاجئين الأوكرانيين. فبحسب بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي، كان يبلغ عدد الروس المقيمين في ألمانيا قبل اندلاع الحرب نحو 235 ألف روسي، كما بلغ عدد الأوكرانيين 135 ألف أوكراني. وبحسب إحصائيات تعود إلى عام 2020، يوجد في ألمانيا 298 ألف فرد يحملون الجنسيتين الألمانية والروسية، إلى جانب 24 ألف فرد يحملون الجنسيتين الألمانية والأوكرانية. ومع ذلك، فإن إجمالي عدد المهاجرين الناطقين بالروسية أعلى بكثير - ويقدر خبراء في الهجرة عددهم بنحو 2.2 مليون فرد.
وجاء العديد من المهاجرين المنحدرين من أصول روسية كمواطنين ألمان أُعيد توطينهم بعد هجرتهم السابقة للكتلة الشرقية أو كلاجئين يهودي ضمن حصص استقبال ألمانيا من مواطني الاتحاد السوفيتي السابق، كما جاء آخرون للعمل، ويحمل بعضهم الجنسية الألمانية. لذا فإن هذه المجموعة ليست موحدة. في حي مارتسان-هيلرسدورف في برلين على سبيل المثال، هناك آلاف من المعاد توطينهم لا يتبنون نظرة ناقدة لبوتين. وظل كثيرون منهم على اتصال بوطنهم السابق من خلال وسائل الإعلام الحكومية الروسية، بينما يريد بعضهم البقاء بعيداً عن السياسة.
تقول شابة شقراء في أوائل العشرينيات أمام متجر «ميكس ماركت»، والتي رفضت أيضاً الإفصاح عن اسمها: «يعتقد كثيرون أن المواطنين في روسيا يمكنهم النزول بسهولة إلى الشوارع والقيام بشيء حيال الأمر، لكن هذا لا ينجح هناك».
وذكرت الشابة أنها بالطبع ضد الحرب، لكنها لا تريد الوقوف إلى جانب روسيا أو أوكرانيا. وقالت: «نحن لا نعرف القصة كاملة، من على حق، ومن ليس كذلك، أو ما الذي يحدث عموماً»، مضيفة أنها لم تتعرض لأي ممارسات عدائية حتى الآن، وقالت «لكنني لا أريد الاختباء الآن أيضاً».
تقول امرأة في منتصف الثلاثينيات: «نعيش في مارتسان منذ أكثر من 20 عاماً، لكن الأمر دائماً على هذا النحو، في روسيا أنت الألماني وفي ألمانيا أنت الروسي»، معربة عن قلقها على المواطنين في روسيا الذين يواجهون مشكلات الآن، على الرغم من أنهم ضد الحرب، وقالت: «نحن لا نعرف ما الذي ينبغي أن نعتقده أو نصدقه، لكن لا أحد يريد الحرب».