أربكت بولندا، العضو في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، نظراءها الغربيين، مثيرةً الجدل الأيام الماضية باقتراحها «المفاجئ» وضع مقاتلاتها طراز ميج - 29 تحت تصرف الولايات المتحدة الأمريكية، ما رفضته وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) فوراً، وانتقدته أطراف أوروبية عدة، في حين وقفت أوكرانيا وحيدة ممتنة للمبادرة البولندية التي شكلت لها «فرصة ضائعة».
في المقابل، اعتبرت واشنطن أن الطريقة الأكثر فاعلية لدعم الجيش الأوكراني هي تقديم المزيد من الأسلحة المضادة للدبابات وللطائرات، وليس مقاتلات ميج - 29، مشيرة إلى الخطورة الكبيرة التي ينطوي عليها نقل طائرات ميج لأوكرانيا، عبر قاعدة «رامشتاين» الجوية الأمريكية في ألمانيا، حسب الاقتراح البولندي. وجاء ذلك في ظل تحذير وزارة الدفاع الروسية من أن أي بلد يفتح قواعده الجوية لأوكرانيا، سيعتبر «طرفاً في الصراع».
كشف هذا الاشتباك بين بولندا والولايات المتحدة عن واحد من الإخفاقات الدبلوماسية للغرب خلال الشهر الماضي، بحسب صحيفة «غارديان» البريطانية.
تلعب بالنار
لفتت بولندا، التي توصف أحياناً في محيطها الأوروبي بأنها «تلعب بالنار»، الأنظار إليها منذ اندلاع الصراع الروسي - الأوكراني، حتى إن «يورونيوز» تساءلت ما إذا كان الصراع الحالي سيغير نظرة الاتحاد إليها. فوارسو متهمة دوماً بـ«تقويض سيادة القانون»، ويُعتبر رئيسها اليميني المحافظ آندريه دودا «حليفاً قوياً» للرئيس الأمريكي السابق الجمهوري دونالد ترامب.لماذا تهتم بولندا بأوكرانيا ؟
في مقال نشرته «نيويورك تايمز الأمريكية»، قال بادرياك كيني، أستاذ التاريخ والدراسات الدولية، ومدير مركز الدراسات البولندية، إنه «في الذاكرة الحية، فقدت بولندا مقاطعاتها الشرقية، عندما قام (الزعيم النازي أودولف) هتلر و(الزعيم السوفييتي جوزيف) ستالين بتقسيمها عام 1939. لذا فإن الغزوات وتقطيع الأوصال وإعادة التقسيم ليست بالأمر المستبعد بالنسبة للبولنديين». ربما هذا جزء مما يفسر ضلوع بولندا بدورٍ مركزيٍ في واحد من أشد الأزمات التي تمر بها أوروبا منذ عقود.الجزء الآخر نفسيٌ ويعود إلى أنه بعد اقتطاع جزء من بولندا لصالح أوكرانيا على يد السوفييت عام 1939، كان القطار يمر عبر تلك المنطقة الحدودية. ذهاباً وإياباً، كان الركاب البولنديون في القطار يرفعون لافتات تضامن من النوافذ المفتوحة، والتي دأب النظام السوفيتي فيما بعد على إغلاقها. ويقول كيني إنه «بعد انتهاء الحكم الشيوعي، أصبح بإمكان البولنديين والأوكرانيين الاقتراب أكثر». وأضاف «أيديولوجية البولنديين ترى أن لديهم رسالة خاصة، بل هدية خاصة، لنقلها إلى أولئك الذين يناضلون من أجل الحرية والحقوق المدنية في جميع أنحاء العالم، وخاصة إلى أوكرانيا». الأمتان يجمعهما ماضٍ أليم مهد لأرضية مشتركة.
عرضٌ مهمٌ
يُنظر للعرض البولندي باعتباره مهماً. هو مختلف قليلاً، لكن بشكل جوهري، عن مخطط تمت مناقشته في السابق. فبولندا تسعى للتعاون في تعزيز القوة الجوية الأوكرانية، في إطار الناتو أو الاتحاد الأوروبي، وليس بشكل انفرادي. وفي التصور الأمريكي، كان الاقتراح عبارة عن صفقة ثلاثية حيث ستسلم بولندا طائرات ميج للطيارين الأوكرانيين للطيران إلى وطنهم، وستوفر الولايات المتحدة بعد ذلك بعض الطائرات البديلة كتعويض.تمرير الطرد الدبلوماسي
وأوضحت «غادريان» أن بولندا شعرت بأن هذه الخطة ستعرضها لغضب الكرملين، فمارست لعبة «تمرير الطرد الدبلوماسي»، إذ عدلت المقترح بحيث يتم إرسال الطائرات إلى قاعدة «رامشتاين». وكان من شأن هذه الخطوة إخراج بولندا من مرمى النيران الروسية، إذ ستُنسب الخطة إلى الولايات المتحدة أو الناتو أو الاتحاد الأوروبي.لكن الناتو بدوره، لا يريد صراعاً مباشراً مع روسيا، القوة النووية الشريكة. فتلقفت واشنطن الطرد، وفوراً اعتبرت أن «أي قرار لتسليم الطائرات سيقع في النهاية على عاتق بولندا». أما المحصلة النهائية بعد هذه الانتكاسة الدبلوماسية هي احتفاظ روسيا بتفوقها الجوي، ذلك أن الطيارين الأوكرانيين الذين تدربوا في بولندا على قيادة «ميج 29»، أصبحوا الآن على الأرض دون وسائل دفاع.
لأي مدى تحتاج أوكرانيا إلى ميج - 29 ؟
إلى الآن، تستبسل القوات الجوية الأوكرانية، التي ورثت ميج 29 من الحقبة السوفيتية عام 1991 وما زالت تشغلها، في صد الهجمات، لكن إذا تعرض ما تبقى من سلاحها الجوي لمزيد من الخسائر، فستصل قريباً إلى نقطة لن يجدي الدفاع عن نفسها من السماء.صحيح أن القوات الأوكرانية المحاصرة تحتاج إلى مقاتلات، لكن يجب أن تكون من الطراز الذي تدرب عليه الطيارون الأوكرانيون، ما يعني أنهم بحاجة إلى أن تكون طائرات روسية الصنع، وعلى رأسها «ميج 29». ويدحض ذلك التصريحات الأمريكية بأن الأوكرانيين «يستخدمون بشكل ممتاز الآن الأسلحة المضادة للدبابات وللطائرات وليس ميج 29».
وبحسب «غارديان»، سيضمن أسطول جديد من الطائرات بقاء المجال الجوي فوق أوكرانيا محل نزاع على الأقل لبعض الوقت، وسيجعل روسيا تفكر مرتين بشأن الضربات الجوية على كييف.
القلق البولندي من روسيا منطقي، إلا أنه بنظر بعض المحللين «غير مبرر»، نظراً لاستبعاد إقدام روسيا على الانتقام من بولندا عسكرياً، كونها عضواً صريحاً في حلف الناتو، الذي سيفعل تلقائياً المادة 4 من معاهدة الحلف. لكن يبدو أن هواجسها التاريخية ومخاوفها من روسيا جعلتها تفضل الاستغناء عن مقاتلات F-16 التي كانت ستقدمها لها أمريكا، لتعويض خسارتها عن ميج 29، والتي كان سيقال إن بولندا قدمتها للطيارين الأوكرانيين، وفقاً لمسودة الخطة. أي إنه وبحسب «إنديان إكسبريس» كان بمثابة «عرض مقايضة».
* يصف موقع «آي نيوز» البريطاني الطائرة ميج - 29 بأنها من بين أولى الطائرات العسكرية السوفيتية التي يتم التحكم فيها إلكترونياً، لتضاهي بذلك المقاتلات الغربية. فما هي ؟