نشر موقع «ذا ناشونال» تقريراً موسعاً، عن سر إطلاق روسيا للعملية العسكرية في أوكرانيا، مشيراً إلى أن الخلافات بين موسكو وكييف، في أعقاب خروج أوكرانيا من مظلة الاتحاد السوفيتي، لم تكن سبباً يدفع موسكو للإقدام على تلك العمليات، ويكمن السبب الحقيقي، في اندفاع حلف شمال الأطلنطي «الناتو» إلى أوكرانيا، والمساعدات العسكرية للحلف، وخاصة من أمريكا وبريطانيا لكييف، بما يشكل تهديداً لروسيا.
انهيار الاتحاد السوفيتي
وأوضح التقرير أنه من الملاحظ أن الاتحاد السوفيتي، الذي كان يتم اعتباره ثاني أكبر قوة في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، قد انتهى بشكل لم يتضمن الكثير العنف، كما أنه بعد 30 عاماً من انهياره، فإنه لم تندلع إلا القليل من الحروب، في مناطق تشهد توترات، وخاصة في مناطق الخلافات العرقية، والتي يطلق عليها اليوم وصف «صراعات مجمدة»، بينما شنت روسيا حربين للحفاظ على الشيشان.
ولفت التقرير إلى أن تفكك الاتحاد السوفيتي، لم يتضمن حروباً مثلما حدث بالنسبة للفترة التي أعقبت الثورة البلشفية، حيث مضت كل جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفيتي (15 دولة) إلى طريقها بعد الانفصال، وبشكل سلمي.
وبالنسبة للعملية العسكرية الخاصة التي بدأتها روسيا في أوكرانيا نهاية فبراير الماضي، فإنها ربما تكون نتيجة متأخرة لانهيار الاتحاد السوفيتي، حيث إن أوكرانيا كانت من الدول المنضوية تحت لواء الاتحاد السوفيتي، وحصلت على استقلالها في خريف عام 1991، وابتعدت عنه، ففي ديسمبر من ذلك العام، انضمت أوكرانيا إلى بيلاروسيا في اجتماع أعلن إنهاء معاهدة 1922 التي أسست لقيام الاتحاد السوفيتي، وفي خلال ذلك الشهر انتهى كل شيء.
العلاقات الروسية– الأوكرانية
إلا أن الحقيقة هي أن الأمر لم ينتهِ فعلاً، ما بين الاتحاد الروسي، الذي ورث الاتحاد السوفيتي، وبين أوكرانيا، ففي البداية بعد استقلال أوكرانيا، كانت تنعم بدرجة من الحكم الذاتي، وكان لها مجلسها التشريعي، بخلاف جناحها من الحزب الشيوعي وقادتها، الذين دخلوا في خلافات ثقافية مع موسكو، فتم حل الحزب الشيوعي، وبقيت المؤسسات الأوكرانية، لتصبح مؤسسات الدولة الجديدة بعد الانفصال عن موسكو، بينما كانت العلاقات الاقتصادية تربط بقوة ما بين موسكو وكييف، بما في ذلك أنابيب الغاز، كما كانت من قبل، وظلت الحدود مفتوحة كما كانت من قبل، مع مرور الروس والأوكرانيين بشكل روتيني بين الجانبين.
بداية القطيعة
ولفت التقرير إلى أنه بمرور الوقت، بدأ الجليد يتراكم لينهي شيئاً فشيئاً دفء العلاقات بين موسكو وكييف، وظهرت الخلافات الثقافية والسياسية، إلا أن بداية القطيعة في العلاقات بين الجانبين، جاءت في الجانب الأوكراني، خاصة مع «الثورة البرتقالية» عامي 2004- 2005، والتي جاءت بالرئيس الأوكراني فيكتور يوشينكو، المعارض المؤيد للغرب.
وفي تلك الأثناء، كانت أوكرانيا تحدد بوصلتها، وتحدد عدوها، وبدأت دوامة العنف بداخلها في منطقتين في إقليم دونباس، في شرقي البلاد، المجاورة لروسيا، حيث حمل الناس هناك السلاح ضد كييف.
وكان ذلك الصراع، هو الذريعة التي استغلها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، للتدخل في أوكرانيا، بحجة حماية الاستقلال الذاتي لتلك المنطقتين، الناطقة بالروسية، وما تعتبره موسكو، بمثابة العلاقة الثقافية الوطيدة معهما.
روسيا وأوكرانيا «شعب واحد»
وذكر التقرير أنه بات واضحاً، من كتابات وخطابات بوتين، خلال العام الماضي، مدى ارتباطه بأوكرانيا، بخلاف ارتباط الروس أيضاً بها، الذي يفوق الارتباط بنسبة قليلة من سكان المنطقتين الذين يشكلون نحو 5% فقط من سكان الدونباس، مثل مقال بوتين المطول الذي نشره موقع الكرملين في شهر يوليو الماضي وكذلك خطابه قبل يومين من بدء العمليات العسكرية.
وأشار التقرير إلى العلاقات التاريخية بين روسيا وأوكرانيا، حيث دأب بوتين على أن يصفهما بأنها «شعب واحد»، وهو ما فسره البعض على أنه يكشف نوايا بوتين، بالتخطيط لتوحيد أوكرانيا مع روسيا، بالقوة إذا استدعى الأمر.. إلا أن بوتين كان قد أعلن مراراً أن أوكرانيا دولة مستقلة، كما أن إعلانه بدء العمليات العسكرية في أوكرانيا، أشار خلاله إلى أنه لا يعتزم احتلال أوكرانيا أو تغيير حدودها.
أوكرانيا ومعاداة روسيا
وما يقوله بوتين عن أوكرانيا خلال الأشهر الأخيرة، يعكس الشعور بالألم تجاه تحول مواقف كييف، بعد خروجها من تحت مظلة الاتحاد السوفيتي في عام 1991، حيث أعرب بوتين عن غضبه من أن أوكرانيا تقدم نفسها، ليس فقط باعتبارها دولة منفصلة عن موسكو، لها لغتها وتاريخ وثقافة خاصة بها، بل أيضاً لأنها تعتبر أن روسيا هي عدوها.
الناتو وأوكرانيا
وأوضح التقرير أن موسكو كان بمقدورها ابتلاع غضبها تجاه تحول أوكرانيا للارتماء في أحضان الغرب، وكان من الممكن ألا يكون هناك سبب في إقدام موسكو على عمليات عسكرية ضد أوكرانيا، باستثناء سبب واحد شديد الأهمية، هو علاقتها بحلف شمال الأطلنطي «الناتو».
فبعد وصول الرئيس يوشينكو إلى السلطة، قادماً من صفوف المعارضة، لم تفعل موسكو أي شيء حيال ذلك، إلا أن حجر الزاوية كان المشاركة المتزايدة للناتو في شؤون أوكرانيا بعد عام 2014، وخاصة المساعدة الدفاعية التي قدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا، ليس فقط في التدريب، ولكن بشكل متزايد في الأسلحة، ما أوصلنا إلى الصراع الجاري الآن.
فقد رأي بوتين مدى تغلغل الناتو في أوكرانيا، بما في ذلك داخل وزارة الدفاع والقوات المسلحة الأوكرانية، بالشكل الذي يمثل تهديداً محتملاً لأمن روسيا، واستعداداً محتملاً من أوكرانيا كي تصبح منصة للناتو، للتدخل مباشرة في روسيا.
أما الغرب والناتو، فكانوا يروجون إلى أن الناتو هو حلف دفاعي بحت ولا يهدد أحداً، بينما تدرك موسكو جيداً تدخل الحلف في صربيا وأفغانستان والعراق وليبيا، وهي التدخلات التي تمت دون إذن من الأمم المتحدة.
المحاولة الأخيرة قبل الحرب
وأكد التقرير أنه كلما بدت أوكرانيا على وشك الاندماج في الناتو؛ ازدادت ضرورة تحرك موسكو، والتي رأت أن عليها التحرك بشكل استباقي للمرحلة الأخيرة في توسع الناتو باتجاه حدودها.
وأشار التقرير إلى أن روسيا بدأت التحرك لتأمين حدودها الغربية، حيث قدمت في أواخر العام الماضي، مقترحات بمسودتي معاهدتين، قدمتهما إلى الولايات المتحدة وحلف الناتو، في ديسمبر الماضي، كأساس للمحادثات حول الترتيبات الأمنية الأوروبية الجديدة، لكن لم يتم إحراز تقدم إلا قليلاً، وهو ما لم يكن كافياً أبداً بالنسبة لروسيا، التي أشارت إلى أن عضوية أوكرانيا في الناتو تعد بالنسبة لها بمثابة «خط أحمر»، كما أوضح بوتين أن قلقه لم يكن حول وجود أوكرانيا في عضوية الناتو، هو الاحتمال البعيد بسبب الانقسامات حول عضوية أوكرانيا الحلف، بل إن قلقه كان من وجود حلف الناتو في الأراضي الأوكرانية.
ومع الوقت، تراجعت احتمالية إجراء محادثات جادة حول الأمن الأوروبي والروسي، ولم تنجح الجهود الدبلوماسية التي بذلها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في اللحظة الأخيرة.
واعتبر التقرير أن حالة الضيق والغضب لدى روسيا، بشأن الانقسام مع أوكرانيا التي تعد بالنسبة لها بمثابة «شقيق» تاريخي وثقافي، يجعل الصراع الحالي بينهما مريراً، إلا أن مخاوف روسيا على أمنها، في مواجهة ما اعتبرته تقدماً مستمراً للناتو، هو ما دفعها إلى التحرك ضد أوكرانيا، وستكون النتيجة في النهاية مأساة لكلا البلدين.