زينة يكن - كاتبة
سمعت أحد القرّاء من المهتمين في السفر والمغامرات، يتحدث «من باب الطرفة» عن أثر الجائحة في أدب الرحلات، يقول: عندما كنا نبحث عن كتب عن الرحلات أو السفر، كنا نبحث ضمن رفوف أدب الرحلات، المغامرات، التاريخ، وما إلى هنالك؛ اليوم، وبسبب صعوبة السفر، أصبح البحث عن أدب الرحلات متاحاً فقط في رفوف الأرشفة والتوثيق.
أقول هذا، لأنني أعتقد أنني من المحظوظين الذين أكرمهم الله بنصيب من السفر في بقعة جغرافية متقاربة العام الماضي، برغم المشقة والتعب، وأحياناً العوائق التي رافقتني طوال رحلاتي، ولذلك أجد واجباً على أن أنقل خواطري ومغامراتي، وأوثق رؤيتي ومنظوري لما وجدت، لعله يلقى صدى لدى المهتمين ممّن أعاقهم الوباء عن التنقل.
لقد زرت في عام واحد كلاً من النمسا، البوسنة والهرسك، كرواتيا، التشيك وهنغاريا. دول قد لا تكون جميعها على امتداد طريق الحرير الذي عاهدت نفسي على اكتشافه ومعرفته عن قرب، ولكن فلنقل على امتداد العالم الأوراسي الذي يتقاطع مع طريق الحرير في العديد من المحطات بحسب بعض الباحثين.
لن أسرد كثيراً في الإجراءات الصارمة، والفحوصات الضرورية والشروط الخاصة لشركات الطيران التي لا تقل حزماً عن قوانين الدول.
سأكتفي بالقول، إنّ تلك الإجراءات القاسية كانت سبباً في تفويت طائرة عودتي من فيينا إلى دبي بسبب الضغط على المراكز الصحية التي تجري فحوصات الفيروس، وما ترتّب على ذلك من تأخير إرسال نتيجتي السلبية، ورفضها تزويدي بالنتيجة عبر الهاتف لأنني لا أتحدث «الألمانية»! فكانت سبباً في عدم موافقة طاقم الطائرة على مغادرتي، واضطررت للمبيت ليلة إضافية، أمّا في البوسنة، فاضطررت لتمديد رحلتي أسبوعاً كاملاً بسبب النتيجة الإيجابية.
أما بالحديث عمّا شاهدت، فسعدت جداً بزيارة مدن عريقة بحضارات صارخة وعمارة شاهقة، بدول لم تفقد ماضيها، وحافظت على حاضرها وتقف على قدم ثابتة لمستقبلها. أبرز المدن التي أبهرتني هي مدينة براغ، أصنّفها بعاصمة الجمال الغجري. بالرغم من أنّ النمط العمراني فيها هو على طراز الباروك الحديث (Baroque)، لا تخلو من فن الرونسيسانس (ٍRenaissance) أو (Rococco) إلّا أنني أجد عمارتها تشبه تاريخها الغجري، فجسر شارلز بدا لي وكأنه مستوحى من قبّعة رجل غجري، تراني أدندن عليه تارة أغنية La Bohème لشارل أزنافور، وتارة أغنية La Gitane لا غاررو.
أستغرب أنّه لم يشر أحد إلى احتمال أن يكون معماريو المدينة قد استوحوا طرازهم المعماري من تاريخ مدينتهم؟ أولم تكن التشيك عاصمة دولة البوهيميا؟!
في فيينا، التي كانت أولى محطاتي الأوروبية، لم تثرني كما فعلت براغ بالرغم من توفر كل عناصر الجمال، ربما لأنني زرتها في توقيت خاطئ.. ربما لأنّ السيد غوغل زودني بمعلومات خاطئة عن الطقس، فكنت قد جلبت معي ملابس خريفية عندما وجدت أنّ الطقس سيكون غائماً جزئياً مع توقع بهطول أمطار، ووصول درجات الحرارة إلى 15 درجة مئوية ليلاً؛ تفاجأت بسطوع الشمس، وبصفاء السماء.. وجدت الناس ترتدي الصنادل الصيفية والشورتات الممزقة، بينما قمت بإحضار الجوارب الحريرية والأثواب المخملية ظناً مني بضرورة محاكاة الأناقة الأوروبية، وكيف لا؟ وليالي الأنس في فيينا والأوبرا والمسرح. انتهى بي الأمر بحزم قراري في شراء بعض القطع المناسبة، لمتابعة رحلتي بسعادة بدلاً من البقاء محبطة.
عندما كنت في البوسنة، خططت للذهاب يوماً كاملاً إلى كرواتيا بحكم القرب الجغرافي لا سيما بين موستار عاصمة الهرسك، ودوبروفنيك المدينة الساحرة على البحر الأدرياتيكي، وبالرغم من إحساسي بالقليل من التعب وعوارض رشح خفيفة، إلّا أنّه لم يخطر على بالي على الإطلاق، أن أكون قد أصبت بالفيروس الكريه الذي حملته معي على الأرجح من سراييفو. ومع ذلك، لم يمنعني هذا من زيارة القلعة العريقة الشهيرة في المدينة، والسير في كل أزقتها، وصعود أدراجها والتعرف على أهلها، وتناول الطعام في مقاهيها.
في طريق العودة إلى موستار، رافقتني صديقتي الكرواتية التي تعرفت عليها هناك، لقد كانت باحثة في المجال العلمي، وأنا في المجال الأنثروبولوجي. كان الحديث معها، مليئاً بالتنوع، كل شيء جميل يحيط بنا.. من المكان.. إلى الكلام. لقد حدثتني على أصلها وفصلها، فهي ابنة لأب بوسني مسلم، وأم كرواتية مسيحية، وشاء سوء القدر أن تعيش صراع الإثنيات في البلد الذي مزقته الحروب العرقية. لم تكتف بذلك، بل تزوجت من فرنسي ملحد ولها منه ولدان، ثم انفصلت عنه، وعاشت في الولايات المتحدة.
كان ذلك العشاء الأخير لنا، قبل الاتصال الذي جاءني من قبل المركز الطبي الذي أجريت لديه اختبار المسحة الأنفية والذي أجبرني على تمديد رحلتي أسبوعاً كاملاً بسبب تأكيد نتيجتي الإيجابية. لكن كما يقال، ربّ ضارة نافعة.
حظيت بعناية فائقة من قبل الفندق الذي أقمت فيه، فقد كان الجميع بمثابة عائلة ثانية لي خصوصاً أنّ الفندق الذي ينتمي لسلسلة «بوتيك» كانت تديره سيدة ستينية وزوجها، وأقاربهما. كل شيء كان يحمل معه روح العائلة.. ستبقى غرفتي ذات الرقم (003) لها مكانة في قلبي.
أخيراً، في بودابست أو كما يلفظها شعبها بودابشت، وصلت إليها بعد أن استقللت محطة القطار من براغ. أعتقد أنني غررت جداً بمهاراتي الجغرافية، فخلال الدول الخمس التي زرتها، كنت أكتفي بحصولي على المعلومات الأساسية من مركز الاستقبال في الفندق، وأمضي سيراً على الأقدام حتى أصل وجهتي. انطلقت من نظريتي في أنّ معظم الدول الأوروبية متشابهة، والطريقة الأنسب للوصول إلى أي معلم هو عبر الوصول إلى الجسور المبنية على الأنهار، إذ تكثر المعالم الأثرية حول المياه كونها مصادر طبيعية تتغذى عليها المدن.
في بودابشت، لم أقرأ عن تاريخ المدينة سابقاً، كنت على دراية فقط بأنها تتألف من مدينتين بودا وبشت. لم يخطر في بالي أنّ المعالم الأثرية متواجدة في بودا، ولم أنتبه أنّ حجز فندقي كان في بشت على مقربة من الحي اليهودي!
تساءلت في البداية كثيراً: ما سبب تواجد هذا الكم من اليهود في الفندق، إذ كانت أشكالهم واضحة ولافتة، النساء بالحجاب، الرجال مع القلنصوات والضفائر على كل جنب، إلى أن استنتجت أن أهم كنيس يهودي، يقع بالقرب من فندقي بمئة متر فقط، وهو مبني على الطراز الأندلسي، ما يشير إلى أنّ اليهود هناك هم من السفرديم (أي الغربيين) وليسوا لأشكيناز أو (الشرقيين).
المهم، لم أكتشف مخارج المدينة إلى أن شارفت رحلتي على الانتهاء، كانت تجربة قاسية بالنسبة لي، بالرغم من جمال المدينة، فلا أحد يتحدث اللغة الإنجليزية، ولم أصل إلى قلعة بودا والمعالم الأخرى إلا مؤخراً، قطعت المدنية شرقاً وغرباً ومع ذلك لم أستطع التواصل مع الناس بشكل جيد. إلى جانب ذلك، كانت أصوات سيارات الإسعاف والشرطة لافتة جداً ومثيرة للتوتر، فقد انقطعت عني تلك الأصوات لمدة طويلة، ولا أذكر أنني سمعتها بهذا الكم إلا عندما زرت مدينتي حلب قبل خمس سنوات.
ما زال في جعبتي المزيد.. البعض كان يلومني على كثرة الترحال، لكني كنت أجيب مستوحية من مقولة ابن عربي: «المؤمن في سفر دائم، والوجود كله سفر في سفر، من ترك السفر، سكن، ومن سكن عاد إلى العدم».