لا تزال الحياة تحمل في طياتها الكثير من الألغاز واللوغارتيمات، ولعل أحد أهم هذه الألغاز هو ذلك (الثقب الأسود) الكائن في سيارة كل منا، بجانب مقعد القيادة، تلك الهوة العميقة المظلمة التي تسقط فيها الأشياء بمنتهى الغرابة ولا تظهر مهما بحثت عنها إلا بعد مدة زمنية محددة!
بداية علينا أن نعترف بالعجز والضعف البشري أمام ظاهرة ميتافيزيقية كهذه حيرت العلماء، بعد أن أدهشت مليارات البشر في العالم ممن جلسوا على مقعد القيادة، الأمر الذي جعل لحظة سقوط مفاتيحك أو هاتفك الجوال أو ساعتك أو قلمك أو أية متعلقات أخرى في هذه الفتحة هو ضرب من ضروب الجحيم وإحدى لحظات الألم النفسي، فتتحسر على سقوطها كما لو كنت على حافة حفرة الـ300 إسبرطي وتودع ما سقط منك في غياهب الأعماق.
هنا يتلاشى الزمن.. هنا ينتحر المنطق، حين تقسم 100 يمين طلاق مغلظ بأنك كنت في كامل وعيك حين سقط منك القلم في هذه الفتحة، وتحاول البحث عن شهود لما حدث حين تسأل من يجلس بجانبك: ألم تر القلم يسقط يا صاح؟!
فينظر لك شذراً ليزيد من حيرتك، أو يدعم هواجسك في أنك عرضة لنظرية مؤامرة بطلها هو الكون بكل تفاصيله وهدفها رفع ضغطك، وزيادة معدلات السكر في دمك، فلا تملك سوى صرخة داخلية غير مسموعة قائلاً: من أنتم؟!
هذه الفتحة التي تبتلع متعلقاتك داخل السيارة، تكمن بجانب مقعدك من جهة على اليمين غالباً، أمام كبسولة إغلاق حزام الأمان مباشرة، ويحدها من جهة اليمين مقعد الشخص الذي يجلس بجانبك، ومن جهة الجنوب فرامل اليد أو (الجير) متعدد السرعات، تلك هي حواف ذلك (الثقب الأسود) العجيب الذي تسقط فيه الأشياء فلا تظهر إلا بعد فاصل بهلواني مرهق يستلزم ركن السيارة والتوقف للبحث والتنقيب.
قد يحتاج الأمر لفِرق بحثية أو معاونين يظل كل منهم مضيئاً كشاف هاتفه المحمول، لعله ينجح في استخراج ما ابتلعته الحفرة.
ولكن لا تندهش حين يضنيك البحث ثم لا تجد ما سقط منك، ولا تشك في عقلك ولا ثوابتك ونواميسك، فلقد حاولت قبلك أجيال منذ اختراع السيارة، ولم يفلح أحدهم في فهم السر.
وأيضاً ماذا تعرف عما يُدعى (العالقات)، إنها بارقة الأمل في أن تجد ما سقط منك، ولكن لا تفرح فليس الأمر بهذه البساطة، حيث إن ما تجده يبقى عالقاً في منطقة رمادية، لا هو في اليمين ولا في اليسار، لا بالقريب ولا بالبعيد، إمعاناً في إذلالك، ولن تتمكن من استجلابه إلا حين تستعين بعصاوات رفيعة أو تغامر بوضع ساعد طفلك الصغير ليستخرجها ساخراً منك.
عليك أن تنتبه جيداً وأنت تقود سيارتك ألا تسقط متعلقاتك في حفرة الـ300 إسبرطي، أو الثقب الأسود، أو حفرة الإنفينتي اللعينة، سمها كما شئت، فلم تعد الحياة تحمل من المرونة واليسر ما يحملك على التجاهل اللذيذ!