عام بالأمس قد طوى صحائفه، وعام أفرد جناحيه لا أدري إلى أين سيأخذني؟ ما أن يوشك العام على طيّ سويعاته الأخيرة حتى أجدني أغرق في لحظة نستولجيا تأرجحني بين ذاكرتين، ذاكرة من رمد ورماد، قابلة للتمدد، كأطماع وجشع الإنسان، لكني لا أتمنى فقدانها من خزّان ذاكرتي، هكذا أتمناها دائماً تنبض فيّ لا تهدأ ولا تخبُ، تدق أجراسها كلما أوشكتُ أن أُعيد ذات الخطأ وذات التجربة المُرة.
وذاكرة موازية أتمنى بألا تسقط مني أيضاً، صغيرة بحجم الكف، لكنها بيضاء ونقية وجميلة، خطفت مدارات حياتي كومضة، حرثت فيّ وزرعت وحصدتُها خيراً ومحبة، حتى غدت شرفتي التي ألجأُ إليها كلما ضاق المدى وخبى نور الإنسان فيّ، بكل ما أٌتيت من وفاء أحاول بألاّ تهرم، أنفخُ فيها من روحي كي تبقى صامدة ولا أٌعطيها ظهر النكران الموصوم بآفة النسيان!
ذاكرة من ضوء، ما أن أفتح مزلاج نافذتها حتى يملأني شعاعها بالدفء والأمل والطمأنينة والسلام النفسي، بأني كنت محظوظة بكل ما فيها، أستذكرها بحب وحنين كلما عجزتُ في وحدتي عن إيقاد شمعة في وجه الظلم والظلام! فأنا من أولئك الذين يخشون التنكر لأشيائهم الجميلة الغالية القليلة الأثيرة حتى في غيابها، يلوون على ذاكرتهم كي يُبقونها متصلة بحبل الوفاء والحنين والامتنان، لتبقى متقدة.. حيّة في نفوسهم، تلك الأشياء التي تصبح مع مرور الزمن متكئاً للقلب والروح! وأحياناً قد يكون من اللازم أن نُبقي نافذة ذاكرتنا المؤلمة مواربة، شاخصة كالوشم الأسود في كف اليد، ليس جلداً للذات، بل لتبقى شاهد إثبات على عذابات الإنسان وأوجاعه، فبعض الآلام لا بد أن تبقى يقظِة، لكي نتعظ ونحاذر.. أن نتجاوز ولكن ألاّ ننسى!
في ليلة العام الجديد، وبين ذاكرتين تلهج روحي ومشاعري بين وجوه لا تشبه إلاّها، هي أثمن حصاد العمر، هكذا عرفتها مذ أن التقيتها أول مرة، مجللة بنقائها، محجلّة بعطر الجنة ونبل الفروسية، لونها الخير وزادها المحبة، لم تخضع لمقاييس الزمن الجديدة.
إلى الأحبة في عامنا الجديد.. وأنتم القلّة بعدد ما مرّ العمر من فرح.. كثيرون بقلبي كالمطر.. أثيرون بقلوبكم التي لم تبخل يوماً عن احتضاني.. في لملمة أنّاتي وأوجاعي.. في هدهدة قلقي وهواجسي.. من زرع الفرح والأمل في روحي كلما ضاقت حدقة الحياة واتسع رتق الألم: كل عام وأنتم جزء من الخير والنِعَم الجليلة في حياتي.. كل يوم وأنتم ملءُ قلبي.