توحي كلمة «الاقتصاد الإبداعي» للوهلة الأولى بأن المسألة لا تتعدى كونها ترديداً لإحدى المصطلحات الرنانة التي بات عالمنا المعاصر يضج بها، وأنها أصبحت جزءاً من «البرستيج» الاجتماعي الذي يعكس مدى عمق المتحدث عندما يكررها في كلامه!
لكن المسألة أبعد من ذلك بكثير! فهذا المصطلح، يحمل ثقلاً اقتصادياً نوعياً يتعدى الناتج المحلي الإجمالي لثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان (الهند)! ففي الوقت الذي بلغ فيه ناتجها المحلي الإجمالي 1.9 تريليون دولار، وصلت إيرادات الاقتصاد الإبداعي على مستوى العالم إلى 2.250 تريليون دولار!
نظرة عن كثب
بناءً على تقرير إرنست ويونغ الصادر يسهم هذا القطاع بشكل كبير في مجال توفير الفرص الوظيفية، فيمنح ما يصل إلى 13% من مجموع القوى العاملة في مدن العالم الرئيسية حيث يصل مجموع إجمالي عدد العاملين في هذا القطاع إلى 29.5 مليون وظيفة عالمياً.
هذا على صعيد العالم، فماذا عن منطقتنا؟
توفر قطاعات الصناعات الثقافية والإبداعية أو اختصاراً «الاقتصاد الإبداعي» أعداداً كبيرة من الفرص الوظيفية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بواقع 1.7 مليون وظيفة بحجم عائدات تخطى حاجز الـ58 مليار دولار، وتُقدر نسبة نمو القطاع 10% على أساس سنوي وفقاً لبعض دراسات اليونيسكو الميدانية، وتعود تلك البيانات الإحصائية لفترة ما قبل جائحة كورونا.
ويعتبر الاقتصاد الإبداعي مظلة شاملة يندرج تحتها عدة قطاعات ونشاطات رئيسية منها: التراث الثقافي والطبيعي وتندرج تحته قطاعات فرعية مثل المتاحف والتعليم الثقافي والتراث الثقافي غير الملموس وفنون الطهي، فنون الاحتفالات: وتندرج تحته فنون الأداء والموسيقى والمهرجانات والمعارض، الفنون البصرية والحرف: وتندرج تحت هذا القطاع الفنون الجميلة والتصوير والحرف وإعادة الإنتاج، الكتب والصحافة: وتندرج تحته الكتابة والكتب، والمجلات والمحفوظات والمكتبات، الإعلام المسموع والمرئي والتفاعلي: ويضم قطاعات الأفلام والفيويو، التلفزيون والإذاعة، الإعلام التفاعلي والألعاب الإلكترونية، الخدمات التصميمية والإبداعية: وتشمل تصميم الأزياء والتصميم الغرافيكي وتصميم المنتج والتصميم الداخلي وتصميم المناظر الطبيعية والخدمات المعمارية والخدمات الإعلانية والتصميم التكنولوجي والبرمجيات.
وتلعب هيئة الثقافة والفنون في دبي ضمن إطار «استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي» دوراً مفصلياً في وضع توصيف وتصنيف إحصائي شمولي للأنشطة الإبداعية، ما من شأنه أن يشكل محطة جديدة على طريق رصد وتمكين وتنمية هذا القطاع وإبراز قوته.
تأثيرات لا متناهية
وتتخطى أهمية الاقتصاد الإبداعي في كونه قطاعاً حيوياً يخلق وظائف جديدة وعائدات محلية ضخمة إلى بروزه كأحد القطاعات التصديرية الرئيسية لعدد من بلدان العالم، فدولة كالولايات المتحدة الأمريكية نجحت في إيجاد أسواق تصريف لمنتجها الثقافي والإبداعي بإجمالي بلغ في عامٍ واحدٍ فقط (2015) 40.5 مليار دولار، وفرنسا أيضاً التي وصل حجم صادراتها الإبداعية إلى 34.4 مليار دولار في العام ذاته.
وللوقوف على حجم الرواج الكبير الذي تلقاه صادرات المنتجات الإبداعية يكفي أن نذكر أن حجم صادرات العالم من هذه المنتجات قفز من 208 مليارات دولار في عام 2002 إلى 509 مليارات في عام 2015! مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الأرقام على ضخامتها كان من الممكن أن تكون أكبر من ذلك بكثير لولا الأزمة المالية العالمية التي عاناها العالم على مدار 5 سنوات!!
ولا يقتصر تأثير الاقتصاد الإبداعي على الجانب المالي فقط! حيث يعتبر من القطاعات الاقتصادية-الاجتماعية بمعنى أنه يعزز من جودة الحياة. فوفق تعريف منظمة الصحة العالمية، جودة الحياة تعني تصور الفرد لمكانته في الحياة في سياق الثقافة والقيم التي يعيش من أجلها وفيما يتعلق بأهدافه وتوقعاته ومعاييره واهتماماته. كما يتناول تقرير ESSnet‐Culture 2021 مفهوم جودة الحياة والذي يشمل الرعاية الصحية وممارسة الأنشطة في أوقات الفراغ (بما في ذلك زيارة الأماكن الثقافية وممارسة الفنون لأجل الترفيه) والحياة الاجتماعية.
وبحسب دراسة لليونيسكو فإن 76% من استثمارات القطاع الإبداعي تضم موظفين أكثر سعادة من نظرائهم في غيرهم من القطاعات، وأن نسبة 78% من أولئك الموظفين إنتاجيتهم أعلى من غيرهم في القطاعات الاقتصادية الأخرى. كما يُسهم الاقتصاد الإبداعي في توزيع الثروة بصورة متوازنة في المجتمع ورفع نسبة مساهمة الشركات الصغيرة والمتوسطة في الناتج العام.
وليس هذا كل شيء، فالاقتصاد الإبداعي يحمل في طياته أثراً كبيراً على جاذبية الدولة أو المدينة التي تتبناه سواء في إسهامه في نشر ثقافتها وإرثها الإنساني على الساحة الدولية، الأمر الذي يفسر قيام 79 مدينة في العالم على ضخ استثمارات وصلت إلى 17.5 مليار دولار على بنيتها التحتية الثقافية في عام واحد فقط (2017)! أو حتى على صعيد استقطاب الشركات والأفراد.
دبي.. عاصمةً للاقتصاد الإبداعي في العالم
في عام 2019، وفي دراسة مستفيضة لها حول الاقتصاد الإبداعي وكيفية تحقيق المدن للنجاح في هذا القطاع الحيوي، سلطت شركة ديلويت العالمية للاستشارات في لوكسمبورغ الضوء على إمارة دبي بوصفها أحد المنافسين المرشحين بقوة لاحتلال الصدارة عالمياً في قطاع الصناعات الثقافية والإبداعية، مُستندة في ذلك إلى مقوماتها الجاذبة التي تؤهلها للعب دور قوي في هذا القطاع!
وتطرقت الدراسة إلى البنية التحتية المؤهلة في الإمارة والمتمثلة في المناطق الحرة التي تُعنى بالصناعات الثقافية والإبداعية كمدينة دبي للإعلام التي تضم 24.000 ألف مبدع وأكثر من 1600 شركة إعلامية، ومدينة دبي للاستوديوهات التي تحتضن بدورها 2.800 مبدع و275 شركة إعلامية، ومدينة دبي للإنترنت التي تحتضن 60% من شركات «فورتشن 500» بحجم استثمارات يقدر بـ17 مليار درهم في الشركات الناشئة، وغيرها الكثير. ومن المعروف في هذا السياق أن دبي هي المدنية الأولى على مستوى العالم في استقطاب المناطق الحرة بواقع 24 منطقة تضم أكثر من 50 ألف شركة.
ولفتت الدراسة إلى المبادرات الاستثنائية لدبي في مجالات عدة كالطباعة ثلاثية الأبعاد التي باتت دبي تعد مركزاً عالمياً لهذه الصناعة، فهي تحتضن أكبر هيكل إنشائي في العالم بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد وتسير بخطى ثابتة نحو تحقيق استراتيجيتها في أن تكون 25% من مبانيها مشيدة بالطباعة الثلاثية بحلول عام 2030.
~