مكّنني عملي في مؤسسة دولية للأبحاث العلمية من الاطلاع على مئات الدراسات العلمية في اللغتين العربية والإنجليزية، وكانت مهمتي تقييم تلك الأبحاث والتأكد من رصانتها واتباعها لأصول المنهج العلمي والمعايير المتبعة عالمياً، وتقييم المؤسسات والمراكز والمجلات الناشرة للأبحاث، فهذا أمر مهم، فإن صَلُح الناشر صَلُح المنشور.
ولأن تلك المعايير تتطلب وجود مختصر عن البحث بلغتين على الأقل، وأحياناً ثلاث، إحداها الإنجليزية، فقد تمكنت أن اطَّلع على أبحاث في لغات أخرى عبر المختصر الإنجليزي الذي يكون وافياً في العادة.
لا توجد ناحية من نواحي الحياة، أو اهتمام أو مجال، صغيراً كان أم كبيراً، مألوفاً أم نادراً، لم تتناوله الأبحاث العلمية العالمية، لكن المتميز فيها أنها تبحث في مواضيع تتعلق بالحياة العصرية وكيفية تطويرها.
الأبحاث العربية التي تنشرها الجامعات ومراكز الأبحاث ودور النشر لم تحُد عن هذا المنحى، فهي كثيرة ومتنوعة، لكن معظمها يتعلق بالترقية الأكاديمية التي تفرضها الجامعات العربية على الأساتذة، لذلك تجد أن الباحثين «مضطرون» لإجراء أبحاث «علمية» ونشرها في مجلات أكاديمية كي يحصلوا على الترقية والعلاوة، ولولا تلك الحاجة لربما عزف كثيرون عنها.
المجاملات التي تزخر بها مجتمعاتنا، ودوافع الترقية الوظيفية لدى الأساتذة، بدلاً من الإبداع والابتكار، أهم الأسباب الكامنة وراء تدني جودة معظم تلك الأبحاث التي تدعي الرصانة وهي بعيدة عنها.
فمعظم أبحاث أساتذتنا المحترمين، وإن كانت تتبع معايير البحث العلمي، تدور حول مواضيع ليست ذات علاقة بالعلوم الحديثة والحياة العصرية وإمكانية تطويرها، بل هي اجترار لأفكار قديمة، وأخرى (مبتكرة) ولكن مرتبطة بالقديم ومحاولة تبريره.
هناك آلاف الأبحاث في مجالات اللغة العربية والشعر والأدب، وآلاف أخرى في التأريخ والدين والتفسير، لكن الأبحاث في مجالات الاجتماع والطب والعلوم والصناعة والاقتصاد والتعليم شحيحة، وإن وجدت فهي تلامس السطوح ولا تدخل في الأعماق، فالهدف الأساس هو النشر ثم الترقية.
بعض الأبحاث صادم للعقل والمنطق، ويحير الإنسان السوي بمعرفة دوافع الباحثين. من أغرب الأبحاث التي اطلعت عليها بحث يتعلق بموضوع لا يخطر ببال أحد وهو: «هل يدخل أبناء الكفار الذين يموتون صغاراً، الجنة أم النار»؟
لا أدري ما الذي ستستفيده البشرية من بحث كهذا؟ وهل يمكن للمرء مهما أوتي من علم غزير أن يعرف مصير الناس في الآخرة؟