ما الذي يحدث على صعيد توزيع اللقاحات الخاصة بفيروس كوفيد-19 المستجد حول العالم؟
الجواب باختصار مفيد، هو أن مشهد الطعومات الدولي يكاد يتحول من أداة لاستنقاذ البشر، إلى آلية خصومات ومحاصصة سياسية، بل تنافس لتحقيق أغراض براجماتية سياسية، تأخذ العالم في طريق مغاير، بل ويمكن أن يتحول التعاطي غير الأخلاقي إلى أداة من أدوات تعميق الخلافات السياسية، وتأجيج الاضطرابات، بل لا نواري إن قلنا، دفع الإرهاب إلى مسارات أعلى جغرافيا وديموغرافيا. ما الذي يدفعنا إلى هذا الاستنتاج القاسي والذي يستدعي التدقيق الزائد في الاتهامات التي تثار هنا او هناك عن لقاح ما؟
يمكن القطع بأن القصة بدأت أوروبياً قبل أن تنتقل إلى بقية القارات، ففي الداخل الأوروبي خلص المراقبون للمشهد إلى القول إن الصراع حول اللقاح البريطاني استرازينيكا، لم يكن سببه دوائياً، بل سياسياً، ذلك أن أغلبية دول القارة قد تعاطت مع اللقاح البريطاني على خلفية صراعات وخلافات سياسية، باعتبار بريطانيا خارج دول الاتحاد الأوروبي، ولهذا علقت أكثر من 20 دولة، بما فيها دول من الاتحاد الأوروبي، استخدام العقار، رغم ارتفاع معدل الإصابات في العديد من الدول الأوروبية وخارج الاتحاد.
تحوير الإرادة السياسية لدى البعض من تخليص العالم من الفيروس الشائع، إلى تسخير المشهد ضمن أطر وسياقات السعي نحو تسنم قمة العالم بات واضحاً وجلياً.
تعزيز الولاءات
خذ إليك على سبيل المثال أبعاد القمة الافتراضية التي عقدت نهار الجمعة 19 مارس الجاري، والتي جمعت قادة الولايات المتحدة الأمريكية، والهند واليابان وأستراليا، وقد يخيل للقارئ أول الأمر أن الهدف من ذلك التجمع هو السعي من أجل دعم الدول الفقيرة وبلاد العالم الثالث التي لا تحوز إمكانيات حقيقية لمحاربة الفيروس.
لكن الواقع يخبرنا أن الهدف كان على العكس من ذلك بالمرة، إذ وضحت نية تقديم نحو مليار جرعة لقاح في منطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ بهدف المواجهة المباشرة للصين التي تنزع إلى توزيع ملايين اللقاحات في تلك المنطقة، وهي التي تنتج يومياً نحو خمسة ملايين عبوة من اللقاح الخاص بها.
الصين بدورها تسعى إلى تقديم تلك الملايين في إطارها الإقليمي الجغرافي، فإنها تعزز جاهدة الولاءات السياسية، وتشد من أزر حلفائها، في مواجهة الحضور الأمريكي، وهي تعلم علم اليقين أن حديث توفير اللقاحات لحلفاء واشنطن الآسيويين في المنطقة إنما كان في قلب المناقشات التي أجراها وزيرا الدفاع والخارجية الأمريكيان الأيام القليلة الماضية، في جولتهما الآسيوية.
هل تقف الصين مكتوفة اليدين ضمن حروب اللقاحات؟
لنؤجل الجواب إلى بعد قليل، ولنرفع أعيننا إلى ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية، والتي باتت تخشى في واقع الحال من تمدد الصين إلى الداخل الأوروبي، وبخاصة في ظل مشروع الصين الكبير لإحياء طريق الحرير مرة جديدة، الأمر الذي يعني توثيق علاقات الصين مع الدول الأوروبية، بل إن بعضها بالفعل مثل إيطاليا، قد وقع في «براثن وفخاخ» الصينيين، بحسب المنظور الأمريكي.
اللقاح الروسي
تبدو واشنطن مشغولة بقطع الطريق على روسيا ولقاحها سبوتنيك عن دول أوروبا بنوع خاص، وهذا ما أعلن عنه نائب وزير الخارجية الروسي، ألكسندر غروشكو، حين أشار في اجتماع عقد نهار الاثنين الماضي في مجلس النواب الروسي «الدوما» إلى أن "الوكالة الدولية الأوروبية للأدوية تنظر في طلب تسجيل في أراضي الاتحاد الأوروبي للقاح سبوتنيك-5، إلا أن محاولات عديدة تجري لمنع استخدام اللقاح.
من يقف وراء إعاقة وصول الدواء الروسي إلى الأوروبيين؟
المؤكد ليس الصين، ذلك أن التنسيق هذه الأيام من موسكو إلى بكين على كافة الأصعدة يجري على قدم وساق، ولهذا تبقى الولايات المتحدة الأمريكية فقط هي من يريد الأمر.
قبل بضعة أيام كانت صحيفة التايمز البريطانية تنشر تقريراً لمحرريها مايكل إيفانز، وديفيد تشارلز، يشيران فيه إلى أن مصادر أمنية روسية حذرت من أن الولايات المتحدة وبعض من حلفائها يخططون لشن هجوم معلوماتي شامل، يستهدف نزع الصدقية عن اللقاح الروسي.
والثابت أنه مثل زوبعة القلق حول اللقاح البريطاني استرازينيكا، فإن ما تخطط له واشنطن من هجوم سيبراني ضد لقاح سبوتنيك، لن يطول روسيا فحسب، بل سيطول أكثر من 52 دولة من دول العالم، يصل تعداد سكانها أكثر من 1.4 مليار نسمة، ولهذا يأتي العقار الروسي في المرتبة الثانية في العالم من حيث الموافقات التي حصل عليها من قبل وكالات الأدوية الوطنية.
دبلوماسية اللقاحات
ما الذي يزعج واشنطن من أن تقوم موسكو بالتعاون مع أوروبا وبقية دول العالم في مكافحة الوباء الشرس؟
حكماً بالنسبة لبقاع وأصقاع عديدة في قارات الأرض، تريد واشنطن قطع الطريق على ما يمكن أن نسميه دبلوماسية اللقاحات، والتي من خلالها تحقق روسيا مربعات نفوذ في العديد من عواصم العالم، وتحسن مواقعها ومواضعها السياسية استراتيجياً، وتجعل من موسكو حليفاً قائماً في الحال، وقادماً بقوة في الاستقبال، لا سيما إذا أعطيت تلك اللقاحات مجاناً، أو بسعر رمزي.
أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فهاجس واشنطن كما يبدو يتمثل في نجاح الفكرة الأوراسية، بمعنى إرهاصات التعاون بين أوروبا وروسيا، وإحياء الحلم القديم للزعيم الفرنسي الشهير شارل ديجول، حلم أوراسيا التي تبدأ من عند المحيط الأطلسي غرباً، و تصل إلى حد جبال الأورال شرقاً.
على أن ما يلفت النظر ويظهر أن هناك شبه انقسام في الرؤية الأمريكية، اعتراف مدير المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المعدية، البروفيسور أنتوني فاوتشي، بأن لقاح سبوتنيك فعال وجيد.
بكين وموسكو، لم تقفا صامتتين، وهذا يعود بنا إلى الجواب المعلق، فهما يسعيان جيداً إلى توفير اللقاحات لدول أمريكا اللاتينية لتقويض نفوذ أمريكا في خلفيتها الجيواستراتيجية التاريخية، من خلال توفر اللقاحات بصورة شبه مجانية.
كل هذه الشواهد تقول إن اللقاحات دخلت بالفعل تحت رحى طاحونة السياسة.