لا أدري ما سرّ تعلقنا، نحن العرب، بالتأريخ؟ ولماذا نخشاه ونلتصق به، وننشغل بما يمكن أن يكتبه المؤرخون عنا بعد رحيلنا؟ ولماذا نهمل شؤون الحاضر والمستقبل ونركز على احتمالات التأريخ؟ بل لماذا نسعى لأن نجعل أحداث الحاضر متصالحة مع الماضي، علماً أن هذا المسعى غير مجدٍ بل متعِب؟ ولماذا نتوهم بأن علينا أن نكون دائماً منسجمين مع التأريخ وأحداثه وأفكاره وسلوكيات شخصياته المهمة؟.
الكتابات الأكثر قراءةً في صحفنا ومكتباتنا هي تلك المتعلقة بالتأريخ، حتى أصبح معظم كتابنا يهتمون بالتأريخ والتراث، كي يضمنوا قراءة كتاباتهم، بدلاً من الحاضر والمستقبل، بينما يمتنع سياسيونا عن تبنِّي سياسات نافعة لبلدانهم، خوفاً مما يمكن أن يسجله التأريخ عنهم، وطالما سمعنا عبارات مثل: «التأريخ لن يرحم أحداً»! و«إنها مسؤولية تاريخية»، و«التأريخ سيكتب بحروف من نور عن كذا» و«التأريخ يعيد نفسه».
هناك هوس عند بعض القادة بما يمكن أن يسجله التأريخ عنهم، حتى إنهم يتشددون في مواقفهم، مع علمهم أن التشدد يلحق أضراراً ببلدانهم، من أجل ألا يكتب التأريخ أنهم تنازلوا أو توصلوا إلى اتفاق لم يلحق الهزيمة بخصومهم!، ولست أدري لماذا يهتم المرء بما يمكن أن يُكتَب في كتب التأريخ عنه بعد موته، إن كان مقتنعاً بصحة أفعاله؟ ثم كيف يتضرر أو ينتفع الميت مما يُكتَب عنه، سلباً أو إيجاباً؟ وكيف يمكن أن يتنبأ المرء بما يمكن أن يُكتب عنه في المستقبل؟.
كثير من أحداث التأريخ جرت في ظروف مختلفة، ولو أن القضايا نفسها تكررت في مراحل لاحقة، لتعامل معها المعنيون بشكل مختلف، وإنْ حدثت مثيلاتُها في المستقبل، وهذا مستبعد، فالتأريخ لا يعيد نفسه كما يردد البعض، ومعالجاتها ستكون مختلفة.
الخوف من التأريخ غير مبرر، إذن، أولاً لأنه لا يكرر نفسه، وثانياً لأن الأموات لا يتأثرون بما يُكتب عنهم البتة، ولن يعلموا به.
يمكننا أن نستمدّ العبر، ونتعلَّم الدروس من التأريخ، ولكن يجب ألا نخشاه، وألا يكون هاجساً يقضُّ مضاجعنا دائماً، ويمكننا أن نهمل أحداثه إن كانت غير منسجمة مع حياتنا المعاصرة، ويمكننا أن نعيش حياتنا بمعزل عنه، إن اقتضت مصلحتنا ذلك.
التأريخ مجرد سجل لأحداث وقعت وتحليلات لمسبباتها، وهي تختلف باختلاف قناعات المؤرخين، ولا يمكن ضمان أن ما يكتبونه سيكون إيجابيّاً أو سلبيّاً.