بسرعة مثيرة للدهشة، تتسارع خطوات الجفاء من واشنطن إلى موسكو، ويكاد المراقب للمشهد بين القطبين الكبيرين تأخذه الرجفة مما يحدث، وكيف لإيقاع الأحداث أن يمضي على هذا النحو؟
ولعل سؤال المفتتح: هل سخونة الوضع الحالي بين روسيا الاتحادية، والولايات المتحدة الأمريكية، مرده تصريح بايدن في أحد حواراته المتلفزة الأخيرة بأن بوتين قاتل؟
يمكن القطع بأن هذا الوصف، الذي لم يستخدمه أي رئيس أمريكي من قبل، وحتى في عمق أزمة الحرب الباردة، إنما جاء ليعكس قمة جبل الجليد الغاطس في قاع المحيط بين القطبين الدوليين الكبيرين، وقد جاء الوصف المثير والخطير في أعقاب تقرير الاستخبارات الوطنية الأمريكية، والذي أشار إلى أن روسيا عملت على دعم ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ومحاولة تقليص فرص بايدن في الفوز.
هل جاء بايدن لينتقم من القيصر بوتين؟
يمكن القطع بأن العكس هو الصحيح، فالقيصر هو من يسعى ومنذ عقدين للانتقام من الإمبراطورية الأمريكية المنفلتة، تلك التي وقفت وراء تفكيك وتفخيخ الاتحاد السوفيتي السابق، وكثيراً ما أشار بوتين تصريحاً وتلميحاً، إلى الأسى والحزن اللذين يتملكانه من جراء أكبر خطأ تعرضت له بلاده في القرن العشرين.
ولعل ما هو متاح للعوام وليس للنخبة، وبمعنى آخر ما يتم تسريبه للإعلام، عن الهجوم السيبراني الأخير الذي ضرب واشنطن في ديسمبر الماضي، يفيد بأن الخطب جلل، ولهذا جاءت تصريحات بايدن عنيفة جداً، وقاسية إلى أبعد حد ومد، ولا يزال يتوعد الروس بهجوم مضاد في العالم الافتراضي.
ردات الفعل
يستلفت النظر في المشهد الروسي، ردات الفعل الرسمية، لا سيما تلك التي جاءت على لسان بوتين، وقدر الهدوء الواضح جداً الذي اتسم به، بل وسر الدعاء الذي توجه به إلى بايدن، حين دعا له بالصحة، مؤكداً أنه يقصد الأمر بالفعل، ولا يمزح أو يسخر من الرئيس الأمريكي، وقد كان من المثير إلى حد الخطير أن يسقط الرئيس الأمريكي البالغ 78 عاماً 3 مرات على سلم الطائرة الرئاسية «إير فورس وان»، ما دعا المراقبين للتساؤل: هل يمتلك بوتين معلومات عن صحة بايدن؟
مهما يكن من أمر، فقد عرض بوتين على الرئيس بايدن إجراء حوار علني؛ بهدف مناقشة الإشكاليات الأمريكية العالقة بين الجانبين، ومحاولة التوصل إلى رؤى مشتركة، تقلص من مساحات الافتراق، وتزيد من أفق الاتفاق، وتجنب الطرفين المزيد من التعقيدات التي يمكن أن تنعكس سلباً على شعوب البلدين، وعلى أجواء السلم والأمن الدوليين دفعة واحدة.
على أن صيغة الدعوة في حد ذاتها كانت تحمل نوعاً من السخرية المبطنة من بوتين تجاه بايدن، فقد اقترح بوتين أن يجرى الاتصال عبر الفيديو الجمعة أو الاثنين، موضحاً أنه مشغول في عطلة نهاية الأسبوع بسبب ذهابه إلى غابات التايغا ليرتاح قليلاً، ولاحقاً أظهرت كاميرات التلفزة والصحف الروسية القيصر بوتين ووزير دفاعه سيرجي شويجو، يتنزهان في غابات سيبيريا معاً.
في الأثناء كانت الخارجية الروسية قد استدعت السفير الروسي في واشنطن، أناتولي أنتونوف، في خطوة غير مسبوقة منذ عام 1998 للتشاور حول مستقبل العلاقات الروسية – الأمريكية.
لم يطل انتظار الروس، فقد رفضت واشنطن فكرة التواصل بين الرئيسين، الأمر الذي أدى إلى صدور بيان من الجانب الروسي جاء فيه «أنه لمن دواعي الأسف أن الجانب الأمريكي لم يتجاوب مع عرض الرئيس الروسي بوتين، إجراء محادثة مفتوحة عبر نظام الفيديو كونفرنس مع رئيس الولايات المتحدة».
هل ضيع الجانب الأمريكي بالفعل فرصة جديدة للبحث عن مخرج من المأزق الذي وقعت فيه العلاقات الروسية الأمريكية بذنب واشنطن؟
تهديدات بلا سقف
تبدو المسافات من واشنطن إلى موسكو مليئة بالألغام منذ وقت طويل، غير أن هناك درباً آخر أكثر خطورة من واشنطن إلى بكين، وقد كانت مواقف بايدن ولا تزال واضحة من الصين بأكثر من مواقفه العدائية تجاه موسكو، فما الذي جرت به الأقدار ليتحول العداء من قبل بايدن إلى الروس بهذا النحو؟
يبدو أن الاختراقات السيبرانية الأخيرة، والتي يقطع الأمريكيون، جمهوريون وديمقراطيون، بأن الروس يقفون وراءها، وهو موقف وزير خارجية ترامب، مايك بومبيو، نفسه، والذي بدا متشدداً بالفعل أكثر من بايدن، يبدو أنها لامست أسلاك الأمن القومي الأمريكي بقوة، ولهذا فإن دوائر استخبارية أمريكية تشير في الأيام الأخيرة إلى أن الانتقام الأمريكي سيكون رهيباً، وبقدر غير مسبوق، وهو ما أكده بايدن.
في الأثناء بدت موسكو مشغولة بالفعل بردات الفعل الأمريكية المتوقعة، وقد صدر عن القيصر نفسه ما يفيد بأن بلاده مشغولة بالاستعداد لملاقاة كافة السيناريوهات الأمريكية، وفي مقدمها ما هو معروف وتقليدي، أي سيناريو العقوبات الاقتصادية والسياسية، فيما تصريحات أخرى صدرت عن بعض كبار مسؤولي الخارجية الأمريكية تلفت إلى أن قلقاً حقيقياً ينتاب الأوساط الروسية تجاه الثأر الأمريكي المضاد في العالم الافتراضي، وهل يمكن أن يحدث براً، أم بحراً، أم جواً، وهناك الآن مجال آخر وهو الفضاء والمواجهات القائمة بالفعل وهذه قصة أخرى.
هل يمكن أن يصل الصدام إلى نقطة مخيفة بالفعل لا سيما إذا أقدم الجانب الأمريكي على رد فعل قد يشتم من رائحته انتقام عسكري؟
يرى البعض في الداخل الروسي أنه في زمن أزمة الكاريبي سنة 1962 كان يفتقر الاتحاد السوفيتي إلى إيصال أسلحة الدمار الشامل إلى الولايات المتحدة من أراضيه، ولهذا كانت كوبا حينها فرصة فريدة، أما الآن فإن موسكو لديها صواريخ أفانجارد الفرط صوتية، وسارامات التي تحمل 10 رؤوس نووية.