في 2 مارس الجاري، احتفل ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفيتي بذكرى مولده التسعين، وبهذا اعتبر أكبر سياسي معمر في روسيا، وربما آخر قيادات المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم.
لم يكن اسم غورباتشوف، ولن يكون اسماً عادياً في تاريخ روسيا والعالم، إذ يعتبر الرجل الذي غير مجرى التاريخ، ووضع حداً للحرب الباردة التي دامت نحو 4 عقود بين حلف وارسو وحلف الناتو.
أسئلة حائرة كثيرة لا تزال بغير جواب واضح حتى الساعة، وفي مقدمتها: "هل كان الرجل يبغي إصلاحاً حقيقياً يستنقذ بلاده من الضياع، أم أنه كان أداة غربية، وأمريكية بنوع خاص، لوضع حد للاتحاد السوفيتي، ومن غير أن يتكبد الغرب إطلاق رصاصة واحدة على العدو السوفيتي وإمبراطورية الشر، بحسب تعبير الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان.
المكاشفة والمصارحة
يصعب القطع، فقد خرجت كتب ومؤلفات عديدة، بعضها يرى أن فكرة المكاشفة والمصارحة، وإعادة البناء، «البريسترويكا والجلاسنوست»، لم تكن إلا الواجهة التي عمل من خلالها الغرب على البدء في تفخيخ الأوضاع الداخلية في الاتحاد السوفيتي، وصولاً إلى تفكيك عقد الجمهوريات السوفيتية السابقة، وتالياً انفراط عقد البلاد التي كانت تدور في فلكه، ثم سقوط حائط برلين وتوحد الألمانيتين.
وعلى الجانب الآخر، هناك آراء داخل روسيا عينها، ترى أن الرجل كانت نيته سليمة ورغبته سديدة في تصويب المسار، لكن لأن الاتحاد السوفيتي كان كعملاق لكن بقدمين من فخار، فقد انهار سريعاً، ولا يزال السؤال حائراً عمن كان غورباتشوف.
في ذكرى مولد غورباتشوف التسعين، تساءل البعض في روسيا: هل كان الرجل ضحية الإصلاحات التي دأب عليها، لا سيما بعد أن أطلق العنان لحرية التعبير والصحافة، والتي انقلبت في الاتحاد السوفيتي السابق بين عشية وضحاها، من الرأي الواحد إلى ألف رأي ورأي، ووجهت سهامها لغورباتشوف في المقام الأول، مستفيدة من شعار جذاب أطلقه الزعيم السوفيتي، مع وصوله إلى قيادة الدولة والحزب الشيوعي، وهاجمت الصحف مشروعه الإصلاحي، ما أدى في النهاية إلى المطالبة بحظر الحزب الشيوعي وإلغائه؟
يحتاج الجواب إلى الغوص عميقاً في سراديب ودهاليز الوثائق السوفيتية، والاطلاع على وثائق تلك الفترة الحرجة من عمر الاتحاد السوفيتي، غير أنه وفي كل الأحوال يمكن القطع بأن ما فعله غورباتشوف قبل نحو ثلاثة عقود ونصف تقريباً، لم يكن سوى رفعه للغطاء من على وجه كيان هش، ملئ بالتناقضات الداخلية، ضمن إمبراطورية خاوية على عروشها، وإن كانت مترامية الأطراف، تعج بالنزاعات القومية والعرقية، وفي حالة جهوزية للانقضاض على المركز في روسيا، والخلاص من نظام طال به الزمن لأكثر من سبعة عقود منذ زمن الثورة البلشيفية وحتى أواخر الثمانينات.
الأفكار الغربية
على أن غورباتشوف وحده لم يكن ليستطيع أن يفعل ما فعله في بلاده، لو لم تكن هناك من حوله زمرة من القيادات السوفيتية ذات المواقع المتقدمة، والتي تم اختراقها من الغرب بأفكار الليبرالية الغربية، والحلم الأمريكي.
وفي الوقت ذاته يمكن القطع بأن الناتو، ورأس حربته الولايات المتحدة الأمريكية، كان قد نجح في الوصول إلى القلب الشيوعي من خلال القوة الناعمة، بأكثر مما كانت صواريخ «بيرشينج» النووية تستطيع أن تفعل.
نجحت أمريكا في الترويج لنموذجها الناعم عبر الإذاعات الموجهة إلى دول أوروبا الشرقية؛ مثل إذاعة أوروبا الحرة، كما لعبت الصحافة والمجلات الأوروبية والأمريكية دوراً تقدمياً في بلورة نموذج مبهر لمواطني الكتلة الشرقية، وشاغب الأمريكيون السوفييت برمزين؛ زجاجة الكوكاكولا، ووجبات ماكدونالد السريعة، ولهذا لم يكن مثيراً أو غريباً أن يمتد طابور مطعم ماكدونالد في موسكو إلى عدة كيلومترات، في حين كان ضريح لينين مؤسس الدولة السوفيتية بالقرب من المطعم الجديد، خالياً من أي زوار.. كانت شمس الاتحاد السوفيتي قد أذنت بالغروب.
من أيضا ساعد غورباتشوف على إحداث ما حدث؟
دور الاوليجاركيات
هناك اتهامات عديدة موجهة لـ «الأوليجاركيات» في الداخل الروسي، ولجماعات العصابات المنظمة، وكذلك للجمعيات السرية العاملة ضمن أفق رؤيوي يسعى لمصالحها الخاصة حول العالم، ومن دون شرط أن يكون ولاؤها للأرض التي تعمل عليها، بل ولاؤها للفكرة قبل كل شيء.
في هذا السياق كان من الطبيعي جدا أن تتحول كبريات الصحف السوفيتية، مثل صحيفة «البرافدا» لسان حال الحزب الشيوعي إلى ملكيات خاصة، وقد امتلأت بكتابات النقد وتوجيه الاتهامات لمكتب الحزب الشيوعي، ولغورباتشوف ذاته، ما فتح الطريق لارتفاع أصوات المعارضة في الداخل السوفيتي، ومن ثم بدأت ملامح الانهيار والتهاوي.
هل كان غورباتشوف متهماً إلى نهاية الطريق؟
المتابع لتصريحات القيصر الروسي فلاديمير بوتين، يستطيع أن يجزم بأن الرجل لا يزال يعتبر أن أكبر خطأ جرت به المقادير في القرن العشرين، هو السماح بانهيار الاتحاد السوفيتي على النحو الذي صار إليه، ولا يوفر الاتهامات للغرب في وقوفه وراء الحدث.
لكن نظرة تأملية أعمق من تصريحات بوتين، قد تكشف لنا عن الأخطاء القاتلة التي حدثت داخل النظام الشمولي السوفيتي، وقادت في نهاية المشهد إلى تراجع جاذبية النظام الاشتراكي، ذاك الذي لم يطور من أدواته الاقتصادية، ولم يعدل ما اعوج من نظريته بعد سبعة عقود، لا سيما في مواجهة تحدي الإمبريالية التي وصفها لينين بأنها أعلى وأخطر مراحل الرأسمالية.
بعد أن بردت الرؤوس من سخونتها، تكشف للروس، خلفاء السوفييت، أن أخطاء تصل إلى حد الحماقات جرى ارتكابها، وكان لها أن تقود إلى النهاية، وفي مقدمتها الدخول في سباق تسلح عسكري، لا تقوى موسكو عليه بمواردها في مواجهة الناتو، عطفاً على الدعم لحلفاء في مشارق الأرض ومغاربها، ومن غير أن يكون لدى السوفييت موارد مالية كافية.
هل ندم غورباتشوف على ما فعله؟
في نهاية شهر سبتمبر الماضي، وفي حوار له مع صحيفة «تايمز» البريطانية، أعرب غورباتشوف عن ثقته بأن العالم كان أكثر استقراراً وأمناً وعدالة لو تم الحفاظ على الدولة السوفيتية.. هل ندم غورباتشوف في نهاية المطاف؟