على الرغم من الصواريخ الإيرانية التي انهمرت على أربيل، والمخاوف الأمنية التي تلف المنطقة، عطفاً على جائحة كوفيد -19، التي باتت تهدد العالم، ها هو الفقير وراء جدران الفاتيكان، الرجل ذو الثوب الأبيض، ورغم الآلام التي حلت به مؤخراً، من جراء التهاب الأعصاب، يحل زائراً على العراق، في زيارة قال عنها إنها بمثابة حج إلى أخوة تألموا، أخوة في الإنسانية، بكل أطيافهم وأطرافهم، أديانهم ومذاهبهم، من غير تفريق.
تكتسب زيارة البابا فرنسيس إلى العراق، من 5 إلى 8 مارس، أهمية خاصة، لأكثر من سبب، إذ يمكننا أن نشير إلى أنها نوع من الحج إلى أرض إبراهيم الخليل، هناك في مدينة أور، الواقعة جنوب العاصمة بغداد بحوالي 300 كيلو متر. ومن جهة ثانية تبدو رسالة دعم روحي، من رجل لا يمتلك فرقاً عسكرية، لكنه يحمل رسالة سلام لدولة عانت كثيراً من سر الإثم، وتحاول جاهدة التعافي من سنوات ظلامية حلق فيها الإرهاب الداعشي على العراقيين.
تجيء زيارة فرنسيس إلى العراق، كترجمة فعلية لواحدة من أهم وثائق القرن الحادي والعشرين، والتي ستترك أثراً على مستقبل علاقات الأمم والشعوب، الأديان والمذاهب حول العالم، وليس في الشرق الأوسط فقط، وثيقة الأخوة الإنسانية التي تم توقيعها على أرض الإمارات العربية المتحدة في فبراير من عام 2019.
تنزع المحبة الأخوية الخوف، وهذا هو في غالب الأمر حال فرنسيس، الذي لم تهزمه المخاوف. وكان أكثر من حبر روماني سابق قد رغب في زيارة مسقط رأس الخليل أبي الأنبياء، إبراهيم عليه السلام، لكن ظروف الحظر والعقوبات في زمن يوحنا بولس الثاني، وإشكاليات داعش لاحقاً حالت دون إتمام تلك الزيارة.
لا عراق من دون مسيحيين
ولعل من أهم دلالات تلك الزيارة، أنها تكشف الغطاء عن الشرق الفنان، بنسيجه الاجتماعي المضفور ضفراً، عبر التعايش الإنساني لقرون طويلة خلت. وربما من أفضل التصريحات التي أطلقت من قبل المسؤولين العراقيين، هو ذاك الذي صدر عن رئيس وزراء العراق، مصطفى الكاظمي، والذي اعتبر فيه: «أن العراق ليس عراقاً من دون مسيحيين»، وقد أكد كذلك على أن «العراقيين أقوياء بتعدديتهم الثقافية والدينية، وأن العراق سيبقى رمز التعايش والتسامح والمواطنة الحقيقية، بالرغم من كل الأشراك التي تضعها الجماعات الغامضة، التي فشلت في خططها لتدمير البلد الرائع».
يلفت عميد مجمع الكنائس الشرقية الكاردينال ليوناردو ساندري إلى أن زيارة البابا تمثل نوعاً من الاهتمام الواضح بالكنائس الشرقية، وقد زار البابا من قبل مصر، والتي يسكنها أكبر عدد من مسيحيي الشرق الأوسط، ويتسم العراق بتاريخه الحضاري، لا سيما أن النصارى العرب قد لعبوا دوراً واضحاً ومهماً في إثراء الحضارة العربية، وذلك عندما ترجموا في القرن السابع الميلادي، وفي زمن الخليفة المأمون، التراث الإنساني والحضاري، العلمي والثقافي، لليونان القدامى، إلى اللغة العربية، وكانوا بذلك شركاء حقيقيين في صناعة الحضارة العربية التي ملأت الدنيا، ومنها أخذ الأوربيون وترجموا إلى اللاتينية في القرون الوسطى.
ولعل الزيارة تستدعي الحديث عن واقع حال الجماعة المسيحية في العراق، والتي كان تعدادها في بداية الألفية الثالثة يصل إلى نحو مليون ونصف المليون نسمة، فيما المتبقي منهم الآن ربما لا يتجاوز 250 ألف نسمة، وقد فر، على سبيل المثال، في ليلة واحدة منهم من الموصل نحو 120 ألف نسمة؛ خوفاً من شر الدواعش.
يقول الصحفي الأمريكي كريستوفر وايت، عبر مجلة فورين بوليسي الأمريكية الشهيرة «إن فرنسيس فعل ما لم يفعله أي رئيس سابق للكنيسة الكاثوليكية، فعلاوة على زيارة الأقلية المسيحية في العراق، فإن فرنسيس الذي جعل من «لقاء الثقافات»، عنواناً لباباويته، يصل إلى هذا البلد حاجاً مسالماً يسعى إلى الانخراط مع الغالبية المسلمة، والشعار الرسمي للزيارة هو «كلكم إخوة»، فضلاً عن صورة حمامة تطير فوق دجلة والفرات مع صورتين للفاتيكان والعلم العراقي».
تجسيد للأخوة
في مدينة أور، التاريخية، سوف تتجلى الأخوة الإنسانية التي آمن فرنسيس بها، واعتمدها منهاجاً له، وشاركه في هذا التوجه الشيخ أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر، واستطاعت الإمارات العربية المتحدة أن تقدم للعالم الشيخ والبابا، في مشهد سيذكره التاريخ عبر وثيقتها الشهيرة.
في أور، سوف يلتقي أبناء العراق؛ ليرفعوا صلاة واحدة، يظلهم فيها الأثر الإيماني والوجداني، لإبراهيم الخليل، أبو اليهود والمسيحيين والمسلمين، وفي ذلك إشارة مهمة للغاية للأطراف المتناحرة داخل العراق، والتي أضحى الموت عندها عادة، من غير التفكير بعمق في الكرامة الإنسانية؟
إحدى علامات الاستفهام التي تصاحب هذه الرحلة: هل سنرى مفاجأة في اللقاء الذي سيجمع البابا فرنسيس مع رجل الدين الشيعي المعتدل، آية الله السيستاني، والذي يكن له المسيحيون في العراق محبة كبيرة؛ بسبب مواقفه الداعمة لهم، والرافضة لمشاهد الاضطهاد والموت التي عانوها وعاشوها على أيدي المتطرفين قبل داعش وبعده؟
في حديثه مع إذاعة مونت كارلو، يجيب البطريرك الكلداني، لويس ساكو، أن البابا فرنسيس سيجتمع مع المرجع الشيعي على السيستاني في بيته بالنجف، وأن اللقاء سيكون مهماً جداً، و أنهما سيركزان خلال لقائهما على الجانب الإنساني والروحي. ورغم عدم توفر معلومات حول توقيع وثيقة، فإن البابا رجل مفاجآت، وهذا يعني أنه يمكن أن تكون هناك مفاجأة في نهاية اللقاء بين رجلي الدين.
لن تخلو زيارات فرنسيس إلى الموصل وقرى سهل نينوى، الحمدانية والقوش، من رسالة تشجيع للمهجرين والنازحين من تلك المدن التي اكتوت بنار داعش والتطرف على مدى السنوات الماضية، حيث احتل التنظيم الإرهابي المدينة بين العامين 2014 و 2017، وتم تهجير مئات العائلات المسيحية التي لم يعد أغلبها إلى المنطقة منذ ذلك الحين، وغادر قسم كبير منهم العراق.
هنا تأتي زيارة فرنسيس لمداواة الجراح، ومحاولة إعادة الثقة لمن تبقوا في مناطقهم، والحيلولة دون رحيلهم ومساهمتهم مع إخوتهم العراقيين في بناء العراق، خاصة أن لهم بصمتهم الواضحة في تاريخ العراق، ويمثلون جزءاً حيوياً في مجتمعه المتنوع.
الخلاصة.. الأخوة الإنسانية يحملها فرنسيس إلى العراق.