تناول علم التراجم سِيَر حياة الأعلام القدماء من الملوك والفقهاء والأدباء والشعراء والفلاسفة دون تفصيل دقيق حول الطبقات الاجتماعية بمستوياتها الفكرية المتباينة في العصور التي احتضنت هؤلاء المشاهير، فقد تمت ترجمة حياة الشافعي بما يُبرز أخلاقه وإبداعه في العلوم الفقهية فقط، دون الحديث بإسهاب عن المجتمع العام الذي عاشه الإمام الشافعي، ما جعل الناس في عصرنا يعتقدون أن جميع المسلمين آنذاك كانوا بالدرجة الفقهية نفسها التي كان عليها الإمام الشافعي.
أما علم الاجتماع الحديث، فهو يدرس سِيَر حياة الأعلام كأفراد متأثرين بالسلوكيات العامة أو بالظواهر الاجتماعية السائدة دون توضيح سيرته الخاصة كما هو في التراجم؛ حيث شرح علم الاجتماع العربي رسومات الرسام الفلسطيني ناجي العلي الكاريكاتورية كجزء من السلوك الفلسطيني العام وخاصة في مخيمات عرب 48، بل جعلوا رسوماته عنواناً للظاهرة الاجتماعية الفلسطينية التي تدّعي أن القيادات العربية تخاذلت عن نصرة الشعب الفلسطيني.
إن الواقع الذي عاشه الرسام العلي بعد خروجه من فلسطين إلى لبنان، ثم رحلته للسعودية والكويت، حتى لحظة اغتياله في بريطانيا، أشبه بالرواية المنقوصة، وهي الرواية التي نشرت رسوماته الكاريكاتورية من خلال الشروحات الحزبية الفلسطينية لإسقاطها ضد الأنظمة العربية، دون عرض الجانب الآخر من حياته الخاصة وعلاقته بالمكان والزمان المتأثرة بالأديان والأفكار.
قومية جبل الجليل
لا يُعرف تاريخ ميلاده على وجه التحديد، والأرجح أنه ولد عام 1937 في قرية الشجرة الواقعة في أقصى شمال فلسطين، وبعد النكبة عام 1948 هاجر مع والديه إلى جنوب لبنان وعاش في مخيم عين الحلوة. إن المسافة بين القرية الفلسطينية والمخيم في لبنان ممتدة بتواصل سكاني غير منقطع بعوارض طبيعية، لذا فإن ثقافتهم وتقاليدهم واحدة على الأغلب، كما أن القريتين تقعان على جبل الجليل الذي مزقته الحدود السياسية بين لبنان وإسرائيل عام 1948.
جبل الجليل هو أحد الجبال المقدسة عند مسيحيي بلاد الشام لاحتضانه ميلاد المسيح «عليه السلام»، ولارتباطه بجبل لبنان المقدس وفق المعتقدات المارونية. كما أن الجراجمة الفرس لهم دور في نشر عقيدة أو مفاهيم الجبال المقدسة بين شيعة جنوب لبنان، وكذلك الصوفية الشامية التي تؤمن بعقيدة «الأبدال» أي الرجال الصالحين حُماة الجبال المقدسة.
جملة من الأحداث والأحوال مرّ بها جبل الجليل نتيجة الصراعات الدينية والعرقية؛ ففي القرن الثاني الميلادي رفض يهود بيت المقدس الإختلاط بمسيحيي جبل الجليل بسبب عرقهم الفينيقي، وحتى اليوم، مدينة الناصرة مولد المسيح تخضع للحكم الإسرائيلي، حيث لم يبقَ للبنانيين أو للمسيحيين إلا الجزء الشمالي من جبل الجليل الذي سماه الشيعة بجبل عامل بعد أن استوطنوه.
أشارت بعض الشواهد إلى أن الأغلبية المستوطنة على جبل الجليل بشقيه الفلسطيني واللبناني همومهم واحدة وأهدافهم مشتركة، وقد ظهر هذا التوافق خلال محاولات أهالي الجبل لتأسيس دولة مستقلة لا علاقة لها بلبنان وفلسطين قبل عام 1948، غير أن تهديدات حسن نصر الله بتحرير مدينة الجليل شمال إسرائيل كانت لغاية استعطاف ولم شمل جميع طوائف جبل الجليل.
وهنا يمكن القول إن شكل الصليب الذي اعتمده الرسام ناجي العلي كتوقيع له على الكثير من رسوماته الكاريكاتورية قبل خروجه من الجنوب اللبناني إلى دولة الكويت، هو أشبه بالنداء الباطن الذي يُحاكي عقله بتاريخ جبل الجليل من حيث لم يشعر؛ فقد رسم أكثر من 73 رسماً كاريكاتورياً جسّد فيه معاناة المسيح عيسى «عليه السلام» تاريخياً مع اليهود أكثر ما يمكن تأويلها بأنها نقلت معاناة الفلسطينيين مع إسرائيل، حيث إن رسمه للمسيح مصلوباً حاملاً صليبه في الأمم المتحدة، وتارة يمشي على الماء للعودة إلى مكان مولده في الجليل الجنوبي، هي دلالات جسّدت تطلعات سكان جبل الجليل بشقيه الفلسطيني واللبناني كقومية واحدة أكثر ما تكون قوميته مع الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة.
كان دائماً يردد عبارته الشهيرة بأنه ليس فلسطينياً ولا لبنانياً، بل هو عربي، لا يحمل الهوية ولا يبحث عن الجنسية. كما أن رسوماته أثناء فترة إقامته في مخيم عين الحلوة بلبنان كانت تحاكي القضايا المشتركة بين اللاجئين الفلسطينيين وسكان الجنوب اللبناني كالفقر والتهميش، بعد أن رفض الانضمام إلى الفصائل الفلسطينية والتي وصف حروبها في لبنان بالطائفية.
ولادة حنظلة
لم تكن دولة الكويت وجهته الأولى بعد خروجه من لبنان، فقد عمل في السعودية لمدة عامين بقطاع الميكانيكا، ولكنه لم يكن متفرغاً للرسم الكاريكاتوري حينها، ثم غادر إلى دولة الكويت للعمل في مجلة الطليعة الكويتية ذات التوجه القومي اليساري لمدة عامين، وهي مجلة تابعة لحركة القوميين العرب.
يبدو أنه لم يتورط في المخالفات القانونية التي أغلقت مجلة الطليعة بعد الشغب الفكري الذي خاضه اليسار القومي، سواء من الكويتيين أو من الفلسطينيين المقيمين في الكويت، وهو الذي جعله مقبولاً للعمل في جريدة السياسة الكويتية، وهي جريدة حكومية بعيدة جداً عن الأفكار الشيوعية واليسارية التي عاشها الرسام العلي طوال طفولته وشبابه في لبنان والكويت.
ظهرت بعض ملامح التغيير في رسومات ناجي العلي بعد انتسابه كرسام متفرغ لجريدة السياسة الكويتية عام 1973، أهمها استبدال رسم الصليب المسيحي برسم جديد، وهو الطفل حنظلة المخفي الوجه بيدين معقودتين، المراقب للأحداث العربية في الخليج العربي وبلاد الشام ومصر، دون أن يتكلم أو كان قليل الكلام.
إن غموض الطفل حنظلة كان له دور بارز في اختلاف التفاسير حول رسوماته التي لم تكن موجهة للمجهول بعمقها، فهناك الكثير من الفلسطينيين يستشهدون بشخصية حنظلة ضد الأنظمة العربية، وخاصة فلسطينيي لبنان وسوريا ومن ينتمون للأحزاب الشيوعية واليسارية والقومية، بينما أفادت شهادة زملائه الكويتيين الذين عملوا معه بأن رسوماته كانت موجهة بالدرجة الأولى ضد الفصائل الفلسطينية وقياداتها.
أما زوجته السيدة وداد صالح نصر، فقد أشارت إلى أن خلاف زوجها ناجي وصل ذروته مع الرئيس ياسر عرفات بعد مشاجرة بينهما في الكويت حول رسوماته الكاريكاتورية التي اعتبرها عرفات إهانة للشعب الفلسطيني بسبب استعمال اللهجة الفلسطينية التقليدية المثيرة للسخرية، وهو ما أثار غضب الرسام ناجي الذي عايره باللهجة المصرية، وقال لعرفات: لو كنت فلسطينياً.. إذاً، لماذا تتحدث باللهجة المصرية؟!
بعيداً عما شاع بين الفلسطينيين أن سبب اغتيال الرسام ناجي العلي بعد رسمه الكاريكاتوري الساخر من نفوذ الصحفية المصرية رشيدة مهران على قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، وما يجب لفت الانتباه له هو أن الرسام ناجي العلي أخبر زوجته بأن نهايته اقتربت بعد مشاجرته مع ياسر عرفات حول اختلاف الأصول العرقية التي تعالى فيها ناجي العلي بلهجته الفلسطينية على لهجة ياسر عرفات المصرية.
على الرغم من انزعاج منظمة التحرير الفلسطينية مما خطته ريشة الرسام العلي، إلا أنها لم تكن تراه بعيون فلسطينية كبقية الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو أن ياسر عرفات لم يكن يرغب في أن تكون اللهجة الفلسطينية التي يستخدمها الفلاحون من عرب 48 ظاهرة على الساحة الفلسطينية السياسية.
وهذه إشارة إلى أن الرسام ناجي العلي لم يكن ضد الأنظمة العربية بالصورة التقليدية المعروفة لنا، بل كان رافضاً الدعم العربي للفصائل الفلسطينية المشاغبة، وهذا كان سبب رفض جميع الفصائل الفلسطينية الدفاع عنه قبل اغتياله، والتي رفضت أيضاً دفنه في مخيم عين الحلوة حيث مقر طفولته اللاجئة إلى لبنان. حاول بعض الفلسطينيين إعادة رفاته إلى العاصمة الفلسطينية رام الله، ولكن عائلته رفضت وفضّلت بقاءه مدفوناً في بريطانيا على العودة إلى الضفة الغربية.
حضانة حنظلة
ما من شخصية كاريكاتورية إلا ولها حيز مكاني وتوقيت زماني تنتهي بموت صاحبها، أو تنتهي بعد مرور فترة من الزمن، بينما الطفل حنظلة ما زال حياً عند الكثير من عرب 48. كما وليس من السهل تحديد ساعة نهايته، فقد استطاع ناجي العلي بحدسه الفني رسم شخصية كاريكاتورية فرض على ذاتها أكثر من طابع ثقافي، جميعها تحمل ملامح القداسة الدينية التي لا تموت.
إن فكرة رسم حنظلة بهيئة الطفل الذي توقف عليه خط الزمن ولن يكبر إلا بعد إصلاح الفصائل الفلسطينية مستوحاة من الثقافة المسيحية التي تؤمن بدور المسيح الإصلاحي للبشرية الذي بدأ منذ طفولته. كذلك تتوافق شخصية حنظلة مع معتقدات الشيعة الذين يؤمنون أن المهدي المنتظر توقف عليه خط الزمن بعد دخوله السرداب وسوف يخرج لإصلاح البشرية أو المسلمين خاصة بعد انتشار الفساد في الأرض. كذلك الصوفية الشامية التي تؤمن بأن الرجل الصالح لا يموت إلا بعد ولادة طفل صالح يرث صلاحه من بعده.
كذلك الشخصيات المرافقة للطفل حنظلة كانت جامعة لأكثر من ثقافة، حيث الفتاة «فاطمة العذراء»، وهي شخصية جمعت بين فاطمة البتول المقدسة عند الشيعة ومريم العذراء المقدسة عند المسيحيين. كما أن ظهور الطفل حنظلة بشخصية الفقير المراقب للصراع بين الرجل المُتكرش الفاسد والرجل الطيب العادل استقطب جميع الشيوعيين واليساريين والاشتراكيين في مخيمات عرب 48.
يمكن القول إن حنظلة هو الطفل العربي الفقير المهمش في مخيمات اللجوء بلبنان، الذي ينتمي للهوية الفلسطينية بشكل غير مباشر، حيث تمكن من تكوين شبكة اجتماعية تضم جميع طوائف جبل الجليل بشقيه الفلسطيني واللبناني من المسيحيين والشيعة والصوفية لمراقبة الفصائل الفلسطينية والدول العربية التي تدعمها. كما نجح الطفل حنظلة في استقطاب الشيوعيين واليساريين والاشتراكيين والقوميين، ليس في جبل الجليل فحسب بل في بلاد الشام قاطبة.
ما فعله ناجي العلي الحائز العديد من الجوائز العربية والعالمية أمر لا يستهان به؛ فأعماله الفنية عبارة عن تكتل فني احتوى مجموعة من الاضطرابات التي تعاني منها الهوية الفلسطينية واللبنانية معاً، حيث استطاع تجسيدها بشخصية الطفل الغاضب المخفي الوجه ليبقى ولا يموت، حتى القضاء البريطاني لم يستطع تحديد هوية العدو الحقيقي الذي اغتال ناجي العلي المتجسد في روحه الطفل حنظلة.
أهملت السلطة الفلسطينية حضانة الطفل حنظلة الذي انتشر في المخيمات الفلسطينية في لبنان وسوريا بشكل غير معقول، بل منحت منظمة التحرير الفلسطينية إيران حق الوصاية على هذا الطفل بعد مقتل والده الروحي ناجي العلي، على الرغم من أن ناجي العلي كان يحذر الفلسطينيين من الذهاب إلى إيران مع ياسر عرفات.
ما فعلته إيران هو احتواء جماهيره وتغذيتهم فكرياً بما يتناسب مع أهدافها في الشرق الأوسط. الطفل حنظلة اليوم يراقب أنظمة الخليج العربي بدلاً من مراقبة الفصائل الفلسطينية، من أجل إسقاط غضب الأطفال الفلسطينيين في المخيمات السورية واللبنانية على دول الخليج العربي. ما هو جدير بالتنبيه له، أن الطفل حنظلة يرتدي ثوب القدسية التي يؤمن بها جميع طوائف جبل الجليل بشقيه الفلسطيني واللبناني، وهذه القدسية المخفية سوف تقود صراعاً أبدياً بين عرب 48 المضطربي الهوية مع أبناء الخليج العربي إلى ما لا نهاية أو إلى أن يكبر الطفل حنظلة، والذي لن يكبر كما هو في الروايات التقليدية السائدة ضمن الإطار الجغرافي لجبل الجليل.
ورد على لسان ابن خلدون في مقدمته قبل 6 قرون أن الإنسان مدنيّ بطبعه. والآن وفي مطلع الألفية الثالثة؛ هناك من يقول إن الإنسان جغرافي بطبعه، وهي دعوة واضحة لإعادة دراسة سِيَر الأعلام العرب من خلال تأثير الجغرافيا على السلوك الإنساني وعدم الاكتفاء بعلم التراجم القديم وعلم الاجتماع الحديث.
وعلى الجانب الفلسطيني، يمكن القول إن حنظلة الطفل هو أداة بذاتها لا تقل أهمية عن الأدوات الفلسطينية التي تم استخدامها بشكل سلبي في القضية الفلسطينية. ومثلما هي حماس في قطاع غزة وفتح في الضفة الغربية، أيضاً هو الطفل حنظلة في مخيمات اللجوء في سوريا ولبنان، ولكن الفرق هو فقط في المعطيات الجغرافية المؤثرة في السلوكيات البشرية واحتياجاتها بما يتناسب مع المتطلبات الراهنة.