للتطبيع العربي الإسرائيلي العديد من التعريفات المنبثقة من المفاهيم متعددة المدارس الفكرية، بعضها أكاديمية عرّفتها مراكز الأبحاث والجامعات، والبعض الأخر نصت عليه الجمعيات الأهلية وبعض الكنائس الأوروبية، وإن كانت جميع هذه التعريفات تتوافق على منع قيام علاقة طبيعية بين العرب واليهود قبل قيام دولة فلسطينية، وهناك إشارات واضحة ليسارية هذه المفاهيم.
وفق مسودة الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل عام 2007، فإن التطبيع هو إزالة الحواجز النفسية بين الفلسطينيين أو العرب مع الإسرائيليين بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال التعاون العملي والفني والمهني والنسوي والشبابي.
ومن أهم الشروح الصريحة حول مصطلح التطبيع من حيث عمق مفهومه الذي تتبناه هيئات مقاطعة التطبيع شرح نشره مركز الدراسات الفلسطينية لإكاديمي فلسطيني مشارك في جامعة يورك، تورنتو، كندا، والذي يرى أن بداية التطبيع بين العرب والإسرائيليين هو بداية النهاية للصراع العربي الإسرائيلي، كما وصف المطبعين بالليبراليين الجدد الذاهبين إلى إسرائيل لتخطي عقدة النقص أو الدونية.
وليس بعيداً عن التعريفات والمفاهيم المتنوعة للتطبيع، هو التطبيقات العملية على ساحة مقاطعة إسرائيل، حيث ثمة مفارقات غريبة قد تقودنا لفهم أكثر، بل لمعرفة موقعنا الحقيقي من الصراع الذي يقوده الفلسطينيون ضد العرب بسبب التطبيع.
حيث استثنت مؤسسات مقاطعة إسرائيل التطبيع الفلسطيني مع إسرائيل بسبب الواقع الذي يعيشونه بالضرورة. كما أشار بيان مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكية في فلسطين عام 2017 بشكل غير مباشر إلى حياديته في صراع التطبيع، مع مطالبته بالمساواة والعدل بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ومن أغرب المفارقات هو أن النضال الفلسطيني مع اليسارية الإسرائيلية المعادية للإمبريالية الغربية لا يعد تطبيعاً في سبيل القضاء على المصالح الأمريكية العالمية، كما أن المسلمين غير العرب المهاجرين إلى أوروبا وأمريكا والعاملين في مؤسسات مقاومة التطبيع مع إسرائيل، هم الأكثر توافداً إلى إسرائيل للصلاة في المسجد الأقصى عبر بوابة تل أبيب التي فتحت أبوابها لهم، وفي نفس الوقت هم لا يريدون أن تفتح لغيرهم من العرب.
تشير الأدبيات الفلسطينية إلى أن التطبيع مصطلح صنعه الفكر الشيوعي الفلسطيني لإقامة دولة تجمع الفلسطينيين واليهود في دولة واحدة. وعندما استقلت إسرائيل كدولة يهودية دون الفلسطينيين، انطلقت الحملة الفلسطينية لمكافحة التطبيع العربي مع إسرائيل الليبرالية للحفاظ على مكتسبات التطبيع الشيوعي بين الفلسطينيين واليهود ما قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948م، أو خوفاً من نجاح التطبيع الليبرالي بين دول الخليج العربي وإسرائيل، وتحقيق التقدم والإزدهار معاً مما يؤثر سلباً على اليسارية العالمية.
إن ما دعت إليه القيادية الفلسطينية نورا عريقات عام 2010 لدمج المهاجرين الفلسطينيين في أمريكا باليسارية التقدمية لتشكيل أداة ضغط على النظم الليبرالية، هو أيضاً بمثابة خلق الحواجز النفسية بين الفلسطينيين والخليجيين، والتي بدورها أداة ضغط لمنع الخليجيين من تجاوز الحواجز النفسية المرسومة لهم أمام التطبيع مع الإسرائيليين.
إذاً: لابد أن يكون تعريف التطبيع وفق مفهومه الصحيح الذي يجب أن يكون لنا دورٌ في تعريفه وعدم ترك الساحة للمشككين في الدور العربي تجاه السلام شرق الأوسطي، وخاصة بعد معرفتنا أن صكوكاً غفرانية أعطيت للفلسطينيين والمسلمين غير العرب للتطبيع مع إسرائيل، كما لابد أن ينطلق تعريفنا الجديد للتطبيع من خلال بعض مقتطفات التاريخ ومصطلحاته وربطها بالتطبيع الحالي، مع البدء بإبراز المفهوم الجديد للتطبيع وفق مفاهيم عروبتنا وتقاليدنا وديننا الإسلام الحنيف بإعتداله السماوي.
شعوبية التطبيع:
إن من أخطر المصطلحات المشبعة بالمفاهيم المتشابكة بين الدين والسياسة التي عصفت بالأمة العربية بعد العهد النبوي، هي الخوارج والشعوبية والتطبيع، وهي أشبه ما تكون بالحقب الزمنية المتسلسلة أو المصنوعة لهدف واحد بعيد المدى.
فإيدولوجية الخوارج زعزعت ثقة العربي بالأنظمة السياسية العربية، فيما أسقط المصطلح الثاني ثقة العربي بذاته السيادية بعد تغلغل الفكر الشعوبي الذي فضّل حكم وسيادة الفرس والترك على القيادات العربية.
فالخوارج، الذين اعتقدوا أن لا أحد غيرهم يفهم الإسلام، سموا أنفسهم بـ (الإسلاميين)، والشعوبيون الذين وصفوا العرب بعدم الفهم ونقص الشجاعة، ادعوا أنهم القادة، ومنهم خرج (الجهاديون)، وكلاهما اليوم في تحالف مع الفصائل الفلسطينية الذين سموا أنفسهم بالمرابطين أو (اللا مطبعون) بمعنى الرافضين للتطبيع بين الدول العربية وإسرائيل.
بعيداً عن كافة التعريفات القديمة حول مفهوم التطبيع العربي مع إسرائيل، فإن الفهم الأمثل للواقع هو الذي ينحصر بين مفهومي الخوارج والشعوبيين، والسبب أن المصطلحات الثلاثة حققت النتيجة نفسها، ألا وهي كبح قدرات الشخصية العربية في سيادتها على مكتسباتها المجتمعية، مع الدعوات المتكررة للإستعانة بالقيادات غير العربية لإصلاح الحال العربي!
لذلك ما يمكن قوله أن مصطلح التطبيع الذي يقوده اللا مطبعون هو (الإصلاح) لإعادة رسم الحياة الطبيعية للعرب، حيث وفق الأدبيات الفكرية الفلسطينية أن التطبيع العربي مع إسرائيل مرفوض عبر الوساطة الأمريكية كالتطبيع الإماراتي، ومقبول وفق الوساطات الثورية واليسارية كتطبيع جنوب إفريقيا مع إسرائيل، وذلك لعدم ثقتهم بالذات العربية واستقلال سيادتها السياسية، وهو ما كان عليه الخوارج والشعوبيون سابقاً في نظرتهم الدونية للعرب.
عروبة التطبيع:
لا يمكن حصر نشأة مصطلح التطبيع بقيام دولة إسرائيل عام 1948 أو ربطه بالمبادرات السياسية فقط بعيداً عن التاريخ العربي ودور العرب في التطبيع مع جميع البلدان التي دخلوها خارج الجزيرة العربية؛ فالتطبيع بمفهومه العربي هو سلوك وعادة يمارسها العرب مع غيرهم من الأديان الأخرى، من أجل استمرارية الحياة وفق طبيعتها المرجوة.
إن أرض فلسطين هي كرقعة الفسيفساء، وكل قطعة في هذه اللوحة تُمثل شريحة معينة حكمت فلسطين لا تمت بصلة لبقية الأطياف الذين حكموها من قبل أو من بعد، فما شهدته هذه الأرض من حروب وصراعات على مرّ التاريخ، جميعها كانت قائمة على مفهوم الاستحواذ على بيت المقدس دون الإعتبار لحقوق الأعراق والأديان الأخرى.
ولكن بعد دخول ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب إلى بيت المقدس، الذي بدوره النابع من ثقافته العربية وسماحة دينه الإسلام، حرص على تعديل المفهوم العالمي لأرض فلسطين المتوارث بين البشرية منذ العهود القديمة، من خلال نقل فلسطين الأرض من عهد (الأحادية الدينية) المضطربة بالحروب إلى نظام (التعددية السماوية) وفق التعايش المشترك حول بيت المقدس.
إن دخول المسلمين إلى فلسطين لم يكن من أجل طرد اليهود والمسيحيين، بل من أجل مشاركة المسلمين عبادتهم السماوية إلى جنب اليهودية والمسيحية، بعد حرب عاشها الفلسطينيون دامت 700 عام بين الإيرانيين والأوروبيين، اضطُهد فيها العرب واليهود دون وجه حق.
فما فعله ابن الخطاب عندما قام بتنظيف (الصخرة اليهودية)، والذي أيضاً لم يعارض أن يكون المسجد الأقصى محاطاً من جميع جوانبه بالكنائس المسيحية، هو أمر لم يفعله أحد من قبل على مر التاريخ الفلسطيني ولا حتى التاريخ البشري.
كما لم يشهد التاريخ أن اليهود عاشوا بحرية عقيدتهم في فلسطين إلا في عهدي عمر بن الخطاب والقائد صلاح الدين الأيوبي الذي سمح بعودة اليهود إلى أرض فلسطين بعد الدور الإيجابي الذي لعبه مستشاره الخاص موسى ابن ميمون اليهودي.
الخلاصة:
إن تسليط الضوء على مصطلح التطبيع من خلال بعض الوقائع التاريخية، والذي سميتُه بـ (التطبيع العمري)، ليس تحريفاً للتاريخ العربي، ولكننا اعتدنا على قراءة النصوص الإسلامية والتاريخية من باب واحد فقط؛ فما فعله عمر بن الخطاب في بيت المقدس تم تدوينه في باب سماحة الإسلام وعدالة ابن الخطاب، دون الإنتباه أن هذه النصوص والأفعال أيضاً يجب قراءتها وإدارجها في باب حقوق الأقليات والأديان الأخرى لمواكبة كافة الأزمان.
فالتيارات الإسلامية واليسارية عادة ما تُسقط المصطلحات الحديثة على أفعال تاريخية لتمريرها أمام المجتمع الدولي بسهولة، بينما نحن ما زلنا نبحث في كتب التاريخ على المصطلحات القديمة لإستخدامها في حياتنا المعاصرة مما أعاق مسيرتنا العربية التنموية التقدمية.
فما بين (التطبيع العمري) لجميع الأديان السماوية في بيت المقدس، و(الإستقطاب الأيوبي) لليهود للعيش في فلسطين، ما زلنا نعاني من تجنيد أو تطويع الإسلاميين واليساريين لمصطلح (التطبيع العربي)، كما كان عليه الخوارج والشعوبيون، ولكن هذه المرة بالثوب الديني مع ربطه بالمقاومة والرباط حول بيت المقدس.
إن (اللا مطبعين) حالهم اليوم أشبه بتسميتهم بـ (فقهاء التطبيع)، وذلك وفقاً للمنهجية التي اتبعها الإخوان المسلمون بإستحداث فقه جديد مع كل مرحلة سياسية لهم فيها مصالح، حيث كان استحداثهم لـ (فقه المغتربين) من أجل إختراق عقول الشباب العربي المهاجر إلى أوروبا، وربما تجنيد بعضهم بما يتناسب مع أهداف حركة الإخوان.
لذلك لا يمكن ربط مصطلح التطبيع فقط بالعلاقة مع إسرائيل والقيم الليبرالية؛ لأن العرب عبر تاريخهم لم يقبلوا بإنغلاق الخوارج الديني ولا بتطرف الشعوبيين السياسي، بل كانوا يؤمنون بالتطبيع مع جميع الأعراق والأديان، وأن (التطبيع العمري) مع مسيحيي ويهود فلسطين كان سبباً عربياً لإنتشار الإسلام في إفريقيا وآسيا.
إن من هم اليوم يرفضون التطبيع مع إسرائيل، ليس الأمر لكراهيتهم لليهود ولدولتهم في الشرق الأوسط، بل هو لعقاب إسرائيل على انحيازها للمنظومة الغربية ذات القيم الليبرالية، وهي حرب ليس لدول الخليج العربية فيها ناقة ولا جمل ليخوضوها نيابة عن بعض الأفكار الدينية القديمة المتعصبة، كما كان عليه الفرس والروم قبل مرحلة التطبيع العمري.
بلال الصباح - باحث في علم الاجتماع العربي
وفق مسودة الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل عام 2007، فإن التطبيع هو إزالة الحواجز النفسية بين الفلسطينيين أو العرب مع الإسرائيليين بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال التعاون العملي والفني والمهني والنسوي والشبابي.
ومن أهم الشروح الصريحة حول مصطلح التطبيع من حيث عمق مفهومه الذي تتبناه هيئات مقاطعة التطبيع شرح نشره مركز الدراسات الفلسطينية لإكاديمي فلسطيني مشارك في جامعة يورك، تورنتو، كندا، والذي يرى أن بداية التطبيع بين العرب والإسرائيليين هو بداية النهاية للصراع العربي الإسرائيلي، كما وصف المطبعين بالليبراليين الجدد الذاهبين إلى إسرائيل لتخطي عقدة النقص أو الدونية.
وليس بعيداً عن التعريفات والمفاهيم المتنوعة للتطبيع، هو التطبيقات العملية على ساحة مقاطعة إسرائيل، حيث ثمة مفارقات غريبة قد تقودنا لفهم أكثر، بل لمعرفة موقعنا الحقيقي من الصراع الذي يقوده الفلسطينيون ضد العرب بسبب التطبيع.
حيث استثنت مؤسسات مقاطعة إسرائيل التطبيع الفلسطيني مع إسرائيل بسبب الواقع الذي يعيشونه بالضرورة. كما أشار بيان مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكية في فلسطين عام 2017 بشكل غير مباشر إلى حياديته في صراع التطبيع، مع مطالبته بالمساواة والعدل بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ومن أغرب المفارقات هو أن النضال الفلسطيني مع اليسارية الإسرائيلية المعادية للإمبريالية الغربية لا يعد تطبيعاً في سبيل القضاء على المصالح الأمريكية العالمية، كما أن المسلمين غير العرب المهاجرين إلى أوروبا وأمريكا والعاملين في مؤسسات مقاومة التطبيع مع إسرائيل، هم الأكثر توافداً إلى إسرائيل للصلاة في المسجد الأقصى عبر بوابة تل أبيب التي فتحت أبوابها لهم، وفي نفس الوقت هم لا يريدون أن تفتح لغيرهم من العرب.
تشير الأدبيات الفلسطينية إلى أن التطبيع مصطلح صنعه الفكر الشيوعي الفلسطيني لإقامة دولة تجمع الفلسطينيين واليهود في دولة واحدة. وعندما استقلت إسرائيل كدولة يهودية دون الفلسطينيين، انطلقت الحملة الفلسطينية لمكافحة التطبيع العربي مع إسرائيل الليبرالية للحفاظ على مكتسبات التطبيع الشيوعي بين الفلسطينيين واليهود ما قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948م، أو خوفاً من نجاح التطبيع الليبرالي بين دول الخليج العربي وإسرائيل، وتحقيق التقدم والإزدهار معاً مما يؤثر سلباً على اليسارية العالمية.
إن ما دعت إليه القيادية الفلسطينية نورا عريقات عام 2010 لدمج المهاجرين الفلسطينيين في أمريكا باليسارية التقدمية لتشكيل أداة ضغط على النظم الليبرالية، هو أيضاً بمثابة خلق الحواجز النفسية بين الفلسطينيين والخليجيين، والتي بدورها أداة ضغط لمنع الخليجيين من تجاوز الحواجز النفسية المرسومة لهم أمام التطبيع مع الإسرائيليين.
إذاً: لابد أن يكون تعريف التطبيع وفق مفهومه الصحيح الذي يجب أن يكون لنا دورٌ في تعريفه وعدم ترك الساحة للمشككين في الدور العربي تجاه السلام شرق الأوسطي، وخاصة بعد معرفتنا أن صكوكاً غفرانية أعطيت للفلسطينيين والمسلمين غير العرب للتطبيع مع إسرائيل، كما لابد أن ينطلق تعريفنا الجديد للتطبيع من خلال بعض مقتطفات التاريخ ومصطلحاته وربطها بالتطبيع الحالي، مع البدء بإبراز المفهوم الجديد للتطبيع وفق مفاهيم عروبتنا وتقاليدنا وديننا الإسلام الحنيف بإعتداله السماوي.
شعوبية التطبيع:
إن من أخطر المصطلحات المشبعة بالمفاهيم المتشابكة بين الدين والسياسة التي عصفت بالأمة العربية بعد العهد النبوي، هي الخوارج والشعوبية والتطبيع، وهي أشبه ما تكون بالحقب الزمنية المتسلسلة أو المصنوعة لهدف واحد بعيد المدى.
فإيدولوجية الخوارج زعزعت ثقة العربي بالأنظمة السياسية العربية، فيما أسقط المصطلح الثاني ثقة العربي بذاته السيادية بعد تغلغل الفكر الشعوبي الذي فضّل حكم وسيادة الفرس والترك على القيادات العربية.
فالخوارج، الذين اعتقدوا أن لا أحد غيرهم يفهم الإسلام، سموا أنفسهم بـ (الإسلاميين)، والشعوبيون الذين وصفوا العرب بعدم الفهم ونقص الشجاعة، ادعوا أنهم القادة، ومنهم خرج (الجهاديون)، وكلاهما اليوم في تحالف مع الفصائل الفلسطينية الذين سموا أنفسهم بالمرابطين أو (اللا مطبعون) بمعنى الرافضين للتطبيع بين الدول العربية وإسرائيل.
بعيداً عن كافة التعريفات القديمة حول مفهوم التطبيع العربي مع إسرائيل، فإن الفهم الأمثل للواقع هو الذي ينحصر بين مفهومي الخوارج والشعوبيين، والسبب أن المصطلحات الثلاثة حققت النتيجة نفسها، ألا وهي كبح قدرات الشخصية العربية في سيادتها على مكتسباتها المجتمعية، مع الدعوات المتكررة للإستعانة بالقيادات غير العربية لإصلاح الحال العربي!
لذلك ما يمكن قوله أن مصطلح التطبيع الذي يقوده اللا مطبعون هو (الإصلاح) لإعادة رسم الحياة الطبيعية للعرب، حيث وفق الأدبيات الفكرية الفلسطينية أن التطبيع العربي مع إسرائيل مرفوض عبر الوساطة الأمريكية كالتطبيع الإماراتي، ومقبول وفق الوساطات الثورية واليسارية كتطبيع جنوب إفريقيا مع إسرائيل، وذلك لعدم ثقتهم بالذات العربية واستقلال سيادتها السياسية، وهو ما كان عليه الخوارج والشعوبيون سابقاً في نظرتهم الدونية للعرب.
عروبة التطبيع:
لا يمكن حصر نشأة مصطلح التطبيع بقيام دولة إسرائيل عام 1948 أو ربطه بالمبادرات السياسية فقط بعيداً عن التاريخ العربي ودور العرب في التطبيع مع جميع البلدان التي دخلوها خارج الجزيرة العربية؛ فالتطبيع بمفهومه العربي هو سلوك وعادة يمارسها العرب مع غيرهم من الأديان الأخرى، من أجل استمرارية الحياة وفق طبيعتها المرجوة.
إن أرض فلسطين هي كرقعة الفسيفساء، وكل قطعة في هذه اللوحة تُمثل شريحة معينة حكمت فلسطين لا تمت بصلة لبقية الأطياف الذين حكموها من قبل أو من بعد، فما شهدته هذه الأرض من حروب وصراعات على مرّ التاريخ، جميعها كانت قائمة على مفهوم الاستحواذ على بيت المقدس دون الإعتبار لحقوق الأعراق والأديان الأخرى.
ولكن بعد دخول ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب إلى بيت المقدس، الذي بدوره النابع من ثقافته العربية وسماحة دينه الإسلام، حرص على تعديل المفهوم العالمي لأرض فلسطين المتوارث بين البشرية منذ العهود القديمة، من خلال نقل فلسطين الأرض من عهد (الأحادية الدينية) المضطربة بالحروب إلى نظام (التعددية السماوية) وفق التعايش المشترك حول بيت المقدس.
إن دخول المسلمين إلى فلسطين لم يكن من أجل طرد اليهود والمسيحيين، بل من أجل مشاركة المسلمين عبادتهم السماوية إلى جنب اليهودية والمسيحية، بعد حرب عاشها الفلسطينيون دامت 700 عام بين الإيرانيين والأوروبيين، اضطُهد فيها العرب واليهود دون وجه حق.
فما فعله ابن الخطاب عندما قام بتنظيف (الصخرة اليهودية)، والذي أيضاً لم يعارض أن يكون المسجد الأقصى محاطاً من جميع جوانبه بالكنائس المسيحية، هو أمر لم يفعله أحد من قبل على مر التاريخ الفلسطيني ولا حتى التاريخ البشري.
كما لم يشهد التاريخ أن اليهود عاشوا بحرية عقيدتهم في فلسطين إلا في عهدي عمر بن الخطاب والقائد صلاح الدين الأيوبي الذي سمح بعودة اليهود إلى أرض فلسطين بعد الدور الإيجابي الذي لعبه مستشاره الخاص موسى ابن ميمون اليهودي.
الخلاصة:
إن تسليط الضوء على مصطلح التطبيع من خلال بعض الوقائع التاريخية، والذي سميتُه بـ (التطبيع العمري)، ليس تحريفاً للتاريخ العربي، ولكننا اعتدنا على قراءة النصوص الإسلامية والتاريخية من باب واحد فقط؛ فما فعله عمر بن الخطاب في بيت المقدس تم تدوينه في باب سماحة الإسلام وعدالة ابن الخطاب، دون الإنتباه أن هذه النصوص والأفعال أيضاً يجب قراءتها وإدارجها في باب حقوق الأقليات والأديان الأخرى لمواكبة كافة الأزمان.
فالتيارات الإسلامية واليسارية عادة ما تُسقط المصطلحات الحديثة على أفعال تاريخية لتمريرها أمام المجتمع الدولي بسهولة، بينما نحن ما زلنا نبحث في كتب التاريخ على المصطلحات القديمة لإستخدامها في حياتنا المعاصرة مما أعاق مسيرتنا العربية التنموية التقدمية.
فما بين (التطبيع العمري) لجميع الأديان السماوية في بيت المقدس، و(الإستقطاب الأيوبي) لليهود للعيش في فلسطين، ما زلنا نعاني من تجنيد أو تطويع الإسلاميين واليساريين لمصطلح (التطبيع العربي)، كما كان عليه الخوارج والشعوبيون، ولكن هذه المرة بالثوب الديني مع ربطه بالمقاومة والرباط حول بيت المقدس.
إن (اللا مطبعين) حالهم اليوم أشبه بتسميتهم بـ (فقهاء التطبيع)، وذلك وفقاً للمنهجية التي اتبعها الإخوان المسلمون بإستحداث فقه جديد مع كل مرحلة سياسية لهم فيها مصالح، حيث كان استحداثهم لـ (فقه المغتربين) من أجل إختراق عقول الشباب العربي المهاجر إلى أوروبا، وربما تجنيد بعضهم بما يتناسب مع أهداف حركة الإخوان.
لذلك لا يمكن ربط مصطلح التطبيع فقط بالعلاقة مع إسرائيل والقيم الليبرالية؛ لأن العرب عبر تاريخهم لم يقبلوا بإنغلاق الخوارج الديني ولا بتطرف الشعوبيين السياسي، بل كانوا يؤمنون بالتطبيع مع جميع الأعراق والأديان، وأن (التطبيع العمري) مع مسيحيي ويهود فلسطين كان سبباً عربياً لإنتشار الإسلام في إفريقيا وآسيا.
إن من هم اليوم يرفضون التطبيع مع إسرائيل، ليس الأمر لكراهيتهم لليهود ولدولتهم في الشرق الأوسط، بل هو لعقاب إسرائيل على انحيازها للمنظومة الغربية ذات القيم الليبرالية، وهي حرب ليس لدول الخليج العربية فيها ناقة ولا جمل ليخوضوها نيابة عن بعض الأفكار الدينية القديمة المتعصبة، كما كان عليه الفرس والروم قبل مرحلة التطبيع العمري.
بلال الصباح - باحث في علم الاجتماع العربي