في عام 1943، وُلد الفيزيائي الشهير مايكل كوسترليتز في مدينة «إبردين» الإنجليزية. لوالدين ألمانيين نزحا من تلك الدولة التى كان يسيطر عليها في تلك الآونة حكم فاشي ديكتاتوري أدخل العالم في دوامة الحرب التي خلفت ملايين الضحايا.
كان والده رجلاً شهيراً، طبيباً وأستاذاً في الجامعة، اكتشف تأثير الأفيونات في الدماغ، ورغم شهرته، ونبوغه في الطب، كان أمله أن يدرس الفيزياء النظرية، إلا أنه فشل في تحقيق ذلك الأمل بسبب «ضغوط الحياة!».
يبدو أن «عشق الفيزياء» انتقل للابن الذى حقق أمل والده الضائع، إذ لم يدرس فقط الفيزياء النظرية، بل برع فيها وتمكن منها وحصل بسببها على أرفع الجوائز العلمية.. جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2016.
التقت «الرؤية» كوسترليتز على هامش الاجتماع السنوي لعلماء نوبل في مدينة ليندوا الألمانية، للحديث عن مستقبل العالم، وكيف يتصور تقدم البشرية خلال العقود المقبلة، وعلاقة الفيزياء بالمجتمع والطريقة التي يمكن أن تسهم بها في مسار البشرية مستقبلاً.
• في البداية.. هل لك أن تحدثنا عن بداياتك والكيفية التى أثرت بها نشأتك على تكوينك العلمي؟
هاجر والدي ووالداتي من ألمانيا النازية عام 1934، واستقروا في اسكتلندا، وهناك وُلدت.
عشت طفولة سعيدة، فقد كان والدي طبيباً شهيراً، وكنا في رغد من العيش. منزلنا كبير ومشرق، ولم أعرف على الإطلاق أن لي جذوراً ألمانية حتى وصلت للمرحلة الإعدادية حيث تلقيت دروساً وقتها في اللغة الألمانية.
بشكل عام، كنت أقضي الوقت في مكتبة والدي، التي تزخر بالكتب العلمية، ترعرعت في منزل يقدس العلم. ومنذ صغري أحببت أن أكون عالماً.
• وما الذي دفعك لدراسة الفيزياء رغم تأثرك بوالدك الطبيب؟
في مرحلتي الابتدائية أحببت الرياضيات لأنها علم له منطق صارم. وفي أثناء دراستي الثانوية واجهت مشكلات كبيرة في مادة الكيمياء، إذ كنت أعاني من عمى الألوان وهو الأمر الذى جعلني أرسب في جميع تجارب الكيمياء بسبب عدم قدرتي على تمييز لون المواد الكيميائية.
كان والدي يتمنى دراسة الفيزياء، لكن ظروف عمله الصعبة كطبيب علاوة على ضغوط الحياة لم تمكنه من دراسة ذلك العلم.
في الصف الأخير في دراستي الثانوية، أدركت أنني سأجد ضالتي في الفيزياء، التي تعد هي الأخرى علماً رياضياً يخضع للمنطق والإثبات. درست في جامعة أكسفورد، ثم حدثت المصادفة التي غيرت حياتي.
قرأت في الصحف عن وظيفة شاغرة في مختبر الأبحاث النووي الأوروبي، وهو المكان الذى يحلم به أي باحث في الفيزياء. رتبت أوراقي وقصدت مدينة «تورينو» الإيطالية مع زوجتي للتقدم للوظيفة التي بدت وكأنها خُلقت لي. إلا أنني نسيت موعد التقدم، وبالتالي، ضاعت فرصتي في الحصول على وظيفة الأحلام.
كنت قد قدمت استقالتي بالفعل من الجامعة وأصبحت عاطلاً عن العمل.
فبحثت زوجتى عن وظائف شاغرة، حتى وجدت وظيفة صغيرة في جامعة برمنغهام، التي لم أكن لأتوقع أن أعمل بها على الإطلاق.
غير أن حظي الجيد قادني للعمل بتلك الجامعة، فالمصادفة التي جعلتني أنسى موعدي هي نفسها التى قادتني للفوز بالجائزة. ففي تلك الجامعة قابلت «ديفيد ثاولوس»، وبدأت معه الرحلة التي وصلت بنا إلى جائزة نوبل.
• تتحدث عن الصدفة وكأنها شكّلت حياتك.. هل تؤمن حقاً بذلك الأمر؟
بالطبع.. كل ما يحدث لنا هو محض صدف. الحياة عشوائية تماماً.
بالنسبة لي، ولدت ـ بالصدفة ـ في بيت يقدس العلم فأحببت العلوم. أصبت بعمى الألوان بالصدفة، وبالتالي ابتعدت عن الكيمياء.
نسيت موعدي بالصدفة، لذا قابلت «ديفيد ثاولوس» الذي شاركني الجائزة. دون تلك الصدف ربما ما كنت أصلاً أجلس معك الآن ونتحدث في أي أمر له علاقة بالجائزة. الصدفة هي ما صنعت مني ذلك الإنسان الذي أنا عليه الآن. بجانب القليل من الجهد، والعرق.
• وكيف بدأ الطريق الذي قادك لجائزة نوبل؟
كما قلت، بدأ بالصدفة. فحين انتقلت لجامعة «برمنغهام» قابلت «ديفيد ثاولوس» الذي يستحق 1000 جائزة نوبل.
لم أكن أعرف أي شيء عن طبوغرافيا المواد. بدأ «ثاولوس» يشرح لي المعادلات، والنظريات، والمفاهيم. أنا بالنسبة لـ«ثاولوس» مجرد أحمق وغبي.
• هل يمكنك أن تشرح لنا ببساطة أسباب فوزك بتلك الجائزة؟
لا توجد طريقة بسيطة لشرح الأمر. أنا متزوج منذ نصف قرن تقريباً، وقد حاولت شرح الأمر لزوجتي عشرات المرات دون أن تنجح في استيعابه إلا بنسبة 1%. إلا أنني سأحاول تبسيط الأمر قدر استطاعتي. هذا أمر يُشبه ذهابك للصين دون أن تتحدث لغتها الأم!
تكشف أبحاثنا ـ ثاولوس وأنا - الطريقة التي تعمل بها المادة عند درجات الحرارة المنخفضة للغاية. نعرف أن بعض المواد تتحول لموصلات فائقة عند درجات الحرارة المنخفضة، أي أن سريان التيار الكهربي فيها لا يواجه أي مقاومة.
إلا أن المواد ثنائية البعد ـ والتي قمت بدراستها مع ثاولوس ـ لا تتحول إلى ذلك النوع من الموصلات بسبب ظاهرة التذبذب الحراري، وهذا أيضاً أمر يعرفه العلماء.
في بداية سبعينات القرن الماضي، توصلت مع ثاولوس إلى أن ما يعرفه العلماء غير صحيح. فالمواد ثنائية البعد تمر بتحولات هي الأخرى، ما يجعلها ـ في درجات الحرارة المنخفضة للغاية - ذات قدرة عالية للغاية على التوصل، ربما أفضل من المواد ثلاثية الأبعاد.
وهل هناك ثمة تطبيق لتلك النظرية؟
في الوقت الحالي لا توجد أي تطبيقات. لكنها الأساس العلمي الذي يمكن أن يشكل قاعدة تؤخذ في الاعتبار أثناء عملية تصنيع الموصلات الفائقة في المستقبل.
• بالحديث عن المستقبل.. كيف ترى مستقبل كوكب الأرض؟
أنا متفائل بشأن المستقبل.. أرى أن مستقبل كوكبنا مشرق للغاية ـ رغم أن الصعوبات التي تواجهنا حالياً كثيرة - لكني وبشكل عميق أؤمن أن الحياة ستمتد إلى ما لا نهاية. لذلك لست أبداً من المتشائمين بشأن المستقبل.
• وهل ترى أن الفيزياء يمكن أن تساعد على تحقيق الرفاه لسكان الأرض؟
أعتقد أن العلوم وحدة واحدة متماسكة. كل علم يضع لبنة في جدار الرفاهية. فمعظم الثورات العلمية حدثت كرد فعل لأزمة تصاعد الرغبة في الحصول على مزيد من الرفاهية.. سواء كانت تلك الرفاهية ملموسة ـ على شكل أدوية أو أدوات ترفيه أو حتى وسائل مواصلات -، أو كانت معنوية على شكل التوصل إلى حلول مشكلات عويصة تريح العقل والقلب.
نحن نعيش في زمن توالي الثورات العلمية.. وسيحمل المستقبل مزيداً من تلك الثورات التي ستقلب مفهومنا عن العلوم رأساً على عقب.
• ما هي المشكلة العظمى التي تتوقع أن يواجهها البشر في المستقبل؟
البشر أنفسهم هم المشكلة.. انظر مثلاً للزيادة السكانية الهائلة، نحن عالم يعيش على موارد الطبيعة بشكل أساسي، وحين يزيد عدد البشر، يزيد الضغط على هذا الموارد لدرجة مرعبة، بالتأكيد سنكون في ورطة.
إذن هل الزيادة السكانية هي فقط المشكلة الرئيسة التي تواجه البشر في المستقبل؟
بالتأكيد الزيادة السكانية مشكلة كبيرة، لكن هل هي أزمتنا الوحيدة في المستقبل؟ بالتأكيد لا.. هناك أزمات أخرى، أبرزها محاولات القوي فرض السيطرة على الضعيف. هذه مشكلة حاسمة، ومتصلة بالمستقبل وليست مجرد ترف وجدال. فحين يسود منطق الاستيلاء على حقوق الغير بالقوة وفرض السيطرة على من هم أضعف، سيتحول الكوكب إلى غابة، خاصة مع تناقص الموارد الطبيعية، وزيادة السكان.
• وكيف يمكن التغلب على تلك المشكلات؟
كنت أتمنى أن أعرف بالضبط «وصفة الخلاص» للبشرية في المستقبل، لكن الحقيقة أني لا أعرف ولا أعرف شخصاً بعينه يعرف.
• رغم هذا كله ما زلت متفائلاً بالمستقبل؟
نعم.. فأنا رجل متخصص في علم يحكمه المنطق الرياضي، وهذه مسألة تجعل كل المشكلات تتحول تلقائياً إلى معادلات تبحث عن حلول.
بهذه الطريقة يمكنني أن أتفاءل. فالعلم يقفز كل يوم خطوة للأمام، وهذا رهان كامل على التطور والمعرفة والثورات العلمية التي تنتظرنا في المستقبل.
وهو رهان لا أعتقد أن الإنسان يمكن أن يخسره، حتى في مواجهة مشكلات كبرى.
• تقول إنك متفائل وتتحدث عن ثورات علمية في المستقبل.. ما ملامح تلك الثورات التي تقول إنها ستندلع في المستقبل؟
أعتقد أن الملمح الأساسي هو تقنيات «النانوتكنولوجي» التي أتوقع أن تغير وجه العالم خلال القرن القادم.
فصناعة تكنولوجيا النانو، إحدى أهم وأخطر الصناعات في عصرنا الحالي، ومستقبلنا سيكون رهناً بمدى قدرتها على التطور والقفز بنا إلى مستويات خلال العقود القادمة.
• كيف يمكن أن يحدث هذا «الحلم»؟
لنفكر بطريقة الفيزياء، ونضع الممكنات والخطوات ونرتب الأمور بشكل منطقي.
• انظر مثلاً لحالنا اليوم، نحن كائنات تعيش على كوكب وتتكاثر بجنون وتستنزف الموارد، إذن من وجهة نظر الفيزياء نحن نحتاج إلى «مواد أكثر»، أليس كذلك؟
نعم بالتأكيد.. لكن ما المغزى هنا؟
المغزى أننا ـ وحتى قبل أن نبلغ الثورات العلمية التي أحدثك عنها خلال عقود ـ نستطيع الآن عبر النانو تكنولوجي أن نتحكم بشكل كامل في طريقة تركيب المواد.
هذه معرفة خرافية، فنحن نتحكم في طريقة التركيب حتى على مستوى النانو، وهو شيء متناهي الدقة والصغر، وما دمنا ـ الآن وليس حتى في المستقبل ـ نتحكم بهذا الأمر في تركيب المواد، فيمكننا ببساطة أن نتحكم في خصائص هذه المواد بشكل كامل، كل هذا بفضل تقنيات النانو.
وأعتقد أن البشرية في المستقبل سوف تستخدم النانوتكنولوجي في أشياء كثيرة جداً.. مثلاً التخلص من النفايات والقمامة وأيضاً تقنية مياه الشرب من الملوثات (وهي من ضمن الموارد المتناقصة بالنسبة لعدد السكان)، فضلاً عن استخدام تقنيات النانو لتوليد الطاقة بكفاءة مذهلة، وهي أيضاً ضمن الموارد التي نحتاجها بشدة.
تقريباً سوف نستخدم النانو في كل شيء، حتى صناعة الأدوية التي تقضي على الأمراض المستعصية والقاتلة التي تفتك بالإنسان.
أيضاً ابتكار أدوات طبية تشكل نقلة عملاقة في قطاع الصحة. وكذلك يمكن عبر تقنيات النانو إعادة بناء الأنسجة البشرية التالفة.
سيكون لدينا القدرة الكاملة على ابتكار روبوتات تكتشف أعماق الفضاء واستعادة السلامة البيئية، وابتكار مركبات مريحة ورخيصة ومتطورة وذاتية القيادة. هناك ثورة تحدث بشائرها الآن لكن البعض يحب التشاؤم.
ستغير تكنولوجيات النانو من طريقة فهمنا للأمور، وستحدث ثورة كبيرة جداً في المستقبل على كافة الأصعدة، من علاج السرطان وحتى غزو الفضاء.
سنتمكن من تصنيع محفزات تسرع أو تبطئ من التفاعلات الكيميائية وهذه معجزة بكل ما تعني الكلمة، وتقنية ستنقذ حياة الملايين. وعبر النانوتكنولوجي سنتمكن من تصميم «أدوات جزيئية» تنفذ مهام شديدة التخصص والدقة.
ما أقوله هنا إن صناعات النانو سوف تذهلنا وكأننا خرجنا من الكهف للتو.
• هل ترى أن تمويل الأبحاث العلمية كافٍ للارتقاء بمستويات البحث العلمي والوصول إلى تلك الثورة التي تتحدث عنها؟
هناك فجوة كبيرة في التمويل بالطبع،.. لكن أعتقد أن الموارد ستوجه في المستقبل القريب إلى مجالات البيولوجيا الجزيئية، وعلوم المواد، وبالتالي سيتوفر التمويل لهذا العلم.
• الفيزياء مجال صعب للغاية.. كيف تحافظ على سلامة عقلك مع محاولة حل المشكلات الفيزيائية المعقدة؟
أقوم بتسلق الجبال.. نعم هذا هو الحل الذي ابتكرته، إذ حصلت مؤخراً على جائزة «سفير التسلق». فرياضة تسلق الجبال تساعدني كثيراً على استعادة صفاء ذهني.
• دعنا نتخيل أنك عدت بالزمن إلى الوراء، هل كنت ستختار الفيزياء كمادة تخصص؟
لا أعرف.. ربما كنت سأفضل دراسة الكمبيوتر والحاسبات. الفيزياء علم معقد وجميل.. ولكنه يجعلك تموت فقيراً في هذا الزمان.
• هل ما زلت تعمل في البحث العلمي إلى الآن؟
بالطبع، ومجال عملي البحثي ينصب على فهم مشكلة توازن الأنظمة.
• وهل تخطط للتقاعد في المستقبل؟
نعم.. حين أموت!
• ما تفسيرك لعدد النساء الحاصلات على نوبل في الفيزياء، والذي لا يزيد عن 3 سيدات فقط على مدى تاريخ نوبل الممتد لأكثر من 115 عاماً؟
النساء ذكيات، ويعلمن أن الفيزياء مجال شاق لا يجلب سوى المتاعب، لذا يفضلن دراسة الكيمياء والطب.
الحقيقة أيضاً أن هناك العديد من المصاعب والتحديات التى تواجه النساء في الحقل العلمي، وهناك التمييز ضد المرأة، إلا أن النساء يقمن بشق طريقهن في الوقت الحالي بالكد والاجتهاد.
• كيف أثرت جائزة نوبل على حياتك؟
لا أعلم على وجه الدقة لماذا فزت، أتساءل طيلة الوقت عن السبب الذي دعا اللجنة لاختيارى لذلك الشرف العظيم، زميلي البروفيسور ثاولوس يستحقها وحده. ومن المحزن أن يموت بعد سنوات قليلة من ذلك التكريم الذى ظل يبحث عنه طيلة حياته.
أصبحت دائم السفر، تتم دعوتي إلى المؤتمرات العلمية، وأصبحت أكثر اختلاطاً بشباب الباحثين.
• كيف ترى مستوى الباحثين العرب؟
تعاملت مع بعض الباحثين من المنطقة العربية.. هم في المجمل أذكياء، ويبذلون جهداً خارقاً لاكتساب المعرفة وتطوير أنفسهم، ولديهم خلفيات علمية قوية، هذا شيء مبشر بالفعل.
كان والده رجلاً شهيراً، طبيباً وأستاذاً في الجامعة، اكتشف تأثير الأفيونات في الدماغ، ورغم شهرته، ونبوغه في الطب، كان أمله أن يدرس الفيزياء النظرية، إلا أنه فشل في تحقيق ذلك الأمل بسبب «ضغوط الحياة!».
يبدو أن «عشق الفيزياء» انتقل للابن الذى حقق أمل والده الضائع، إذ لم يدرس فقط الفيزياء النظرية، بل برع فيها وتمكن منها وحصل بسببها على أرفع الجوائز العلمية.. جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2016.
• في البداية.. هل لك أن تحدثنا عن بداياتك والكيفية التى أثرت بها نشأتك على تكوينك العلمي؟
هاجر والدي ووالداتي من ألمانيا النازية عام 1934، واستقروا في اسكتلندا، وهناك وُلدت.
عشت طفولة سعيدة، فقد كان والدي طبيباً شهيراً، وكنا في رغد من العيش. منزلنا كبير ومشرق، ولم أعرف على الإطلاق أن لي جذوراً ألمانية حتى وصلت للمرحلة الإعدادية حيث تلقيت دروساً وقتها في اللغة الألمانية.
بشكل عام، كنت أقضي الوقت في مكتبة والدي، التي تزخر بالكتب العلمية، ترعرعت في منزل يقدس العلم. ومنذ صغري أحببت أن أكون عالماً.
• وما الذي دفعك لدراسة الفيزياء رغم تأثرك بوالدك الطبيب؟
في مرحلتي الابتدائية أحببت الرياضيات لأنها علم له منطق صارم. وفي أثناء دراستي الثانوية واجهت مشكلات كبيرة في مادة الكيمياء، إذ كنت أعاني من عمى الألوان وهو الأمر الذى جعلني أرسب في جميع تجارب الكيمياء بسبب عدم قدرتي على تمييز لون المواد الكيميائية.
كان والدي يتمنى دراسة الفيزياء، لكن ظروف عمله الصعبة كطبيب علاوة على ضغوط الحياة لم تمكنه من دراسة ذلك العلم.
في الصف الأخير في دراستي الثانوية، أدركت أنني سأجد ضالتي في الفيزياء، التي تعد هي الأخرى علماً رياضياً يخضع للمنطق والإثبات. درست في جامعة أكسفورد، ثم حدثت المصادفة التي غيرت حياتي.
قرأت في الصحف عن وظيفة شاغرة في مختبر الأبحاث النووي الأوروبي، وهو المكان الذى يحلم به أي باحث في الفيزياء. رتبت أوراقي وقصدت مدينة «تورينو» الإيطالية مع زوجتي للتقدم للوظيفة التي بدت وكأنها خُلقت لي. إلا أنني نسيت موعد التقدم، وبالتالي، ضاعت فرصتي في الحصول على وظيفة الأحلام.
كنت قد قدمت استقالتي بالفعل من الجامعة وأصبحت عاطلاً عن العمل.
فبحثت زوجتى عن وظائف شاغرة، حتى وجدت وظيفة صغيرة في جامعة برمنغهام، التي لم أكن لأتوقع أن أعمل بها على الإطلاق.
غير أن حظي الجيد قادني للعمل بتلك الجامعة، فالمصادفة التي جعلتني أنسى موعدي هي نفسها التى قادتني للفوز بالجائزة. ففي تلك الجامعة قابلت «ديفيد ثاولوس»، وبدأت معه الرحلة التي وصلت بنا إلى جائزة نوبل.
• تتحدث عن الصدفة وكأنها شكّلت حياتك.. هل تؤمن حقاً بذلك الأمر؟
بالطبع.. كل ما يحدث لنا هو محض صدف. الحياة عشوائية تماماً.
بالنسبة لي، ولدت ـ بالصدفة ـ في بيت يقدس العلم فأحببت العلوم. أصبت بعمى الألوان بالصدفة، وبالتالي ابتعدت عن الكيمياء.
نسيت موعدي بالصدفة، لذا قابلت «ديفيد ثاولوس» الذي شاركني الجائزة. دون تلك الصدف ربما ما كنت أصلاً أجلس معك الآن ونتحدث في أي أمر له علاقة بالجائزة. الصدفة هي ما صنعت مني ذلك الإنسان الذي أنا عليه الآن. بجانب القليل من الجهد، والعرق.
• وكيف بدأ الطريق الذي قادك لجائزة نوبل؟
كما قلت، بدأ بالصدفة. فحين انتقلت لجامعة «برمنغهام» قابلت «ديفيد ثاولوس» الذي يستحق 1000 جائزة نوبل.
لم أكن أعرف أي شيء عن طبوغرافيا المواد. بدأ «ثاولوس» يشرح لي المعادلات، والنظريات، والمفاهيم. أنا بالنسبة لـ«ثاولوس» مجرد أحمق وغبي.
• هل يمكنك أن تشرح لنا ببساطة أسباب فوزك بتلك الجائزة؟
لا توجد طريقة بسيطة لشرح الأمر. أنا متزوج منذ نصف قرن تقريباً، وقد حاولت شرح الأمر لزوجتي عشرات المرات دون أن تنجح في استيعابه إلا بنسبة 1%. إلا أنني سأحاول تبسيط الأمر قدر استطاعتي. هذا أمر يُشبه ذهابك للصين دون أن تتحدث لغتها الأم!
تكشف أبحاثنا ـ ثاولوس وأنا - الطريقة التي تعمل بها المادة عند درجات الحرارة المنخفضة للغاية. نعرف أن بعض المواد تتحول لموصلات فائقة عند درجات الحرارة المنخفضة، أي أن سريان التيار الكهربي فيها لا يواجه أي مقاومة.
إلا أن المواد ثنائية البعد ـ والتي قمت بدراستها مع ثاولوس ـ لا تتحول إلى ذلك النوع من الموصلات بسبب ظاهرة التذبذب الحراري، وهذا أيضاً أمر يعرفه العلماء.
في بداية سبعينات القرن الماضي، توصلت مع ثاولوس إلى أن ما يعرفه العلماء غير صحيح. فالمواد ثنائية البعد تمر بتحولات هي الأخرى، ما يجعلها ـ في درجات الحرارة المنخفضة للغاية - ذات قدرة عالية للغاية على التوصل، ربما أفضل من المواد ثلاثية الأبعاد.
وهل هناك ثمة تطبيق لتلك النظرية؟
في الوقت الحالي لا توجد أي تطبيقات. لكنها الأساس العلمي الذي يمكن أن يشكل قاعدة تؤخذ في الاعتبار أثناء عملية تصنيع الموصلات الفائقة في المستقبل.
• بالحديث عن المستقبل.. كيف ترى مستقبل كوكب الأرض؟
أنا متفائل بشأن المستقبل.. أرى أن مستقبل كوكبنا مشرق للغاية ـ رغم أن الصعوبات التي تواجهنا حالياً كثيرة - لكني وبشكل عميق أؤمن أن الحياة ستمتد إلى ما لا نهاية. لذلك لست أبداً من المتشائمين بشأن المستقبل.
• وهل ترى أن الفيزياء يمكن أن تساعد على تحقيق الرفاه لسكان الأرض؟
أعتقد أن العلوم وحدة واحدة متماسكة. كل علم يضع لبنة في جدار الرفاهية. فمعظم الثورات العلمية حدثت كرد فعل لأزمة تصاعد الرغبة في الحصول على مزيد من الرفاهية.. سواء كانت تلك الرفاهية ملموسة ـ على شكل أدوية أو أدوات ترفيه أو حتى وسائل مواصلات -، أو كانت معنوية على شكل التوصل إلى حلول مشكلات عويصة تريح العقل والقلب.
نحن نعيش في زمن توالي الثورات العلمية.. وسيحمل المستقبل مزيداً من تلك الثورات التي ستقلب مفهومنا عن العلوم رأساً على عقب.
• ما هي المشكلة العظمى التي تتوقع أن يواجهها البشر في المستقبل؟
البشر أنفسهم هم المشكلة.. انظر مثلاً للزيادة السكانية الهائلة، نحن عالم يعيش على موارد الطبيعة بشكل أساسي، وحين يزيد عدد البشر، يزيد الضغط على هذا الموارد لدرجة مرعبة، بالتأكيد سنكون في ورطة.
إذن هل الزيادة السكانية هي فقط المشكلة الرئيسة التي تواجه البشر في المستقبل؟
بالتأكيد الزيادة السكانية مشكلة كبيرة، لكن هل هي أزمتنا الوحيدة في المستقبل؟ بالتأكيد لا.. هناك أزمات أخرى، أبرزها محاولات القوي فرض السيطرة على الضعيف. هذه مشكلة حاسمة، ومتصلة بالمستقبل وليست مجرد ترف وجدال. فحين يسود منطق الاستيلاء على حقوق الغير بالقوة وفرض السيطرة على من هم أضعف، سيتحول الكوكب إلى غابة، خاصة مع تناقص الموارد الطبيعية، وزيادة السكان.
• وكيف يمكن التغلب على تلك المشكلات؟
كنت أتمنى أن أعرف بالضبط «وصفة الخلاص» للبشرية في المستقبل، لكن الحقيقة أني لا أعرف ولا أعرف شخصاً بعينه يعرف.
• رغم هذا كله ما زلت متفائلاً بالمستقبل؟
نعم.. فأنا رجل متخصص في علم يحكمه المنطق الرياضي، وهذه مسألة تجعل كل المشكلات تتحول تلقائياً إلى معادلات تبحث عن حلول.
بهذه الطريقة يمكنني أن أتفاءل. فالعلم يقفز كل يوم خطوة للأمام، وهذا رهان كامل على التطور والمعرفة والثورات العلمية التي تنتظرنا في المستقبل.
وهو رهان لا أعتقد أن الإنسان يمكن أن يخسره، حتى في مواجهة مشكلات كبرى.
• تقول إنك متفائل وتتحدث عن ثورات علمية في المستقبل.. ما ملامح تلك الثورات التي تقول إنها ستندلع في المستقبل؟
أعتقد أن الملمح الأساسي هو تقنيات «النانوتكنولوجي» التي أتوقع أن تغير وجه العالم خلال القرن القادم.
فصناعة تكنولوجيا النانو، إحدى أهم وأخطر الصناعات في عصرنا الحالي، ومستقبلنا سيكون رهناً بمدى قدرتها على التطور والقفز بنا إلى مستويات خلال العقود القادمة.
• كيف يمكن أن يحدث هذا «الحلم»؟
لنفكر بطريقة الفيزياء، ونضع الممكنات والخطوات ونرتب الأمور بشكل منطقي.
• انظر مثلاً لحالنا اليوم، نحن كائنات تعيش على كوكب وتتكاثر بجنون وتستنزف الموارد، إذن من وجهة نظر الفيزياء نحن نحتاج إلى «مواد أكثر»، أليس كذلك؟
نعم بالتأكيد.. لكن ما المغزى هنا؟
المغزى أننا ـ وحتى قبل أن نبلغ الثورات العلمية التي أحدثك عنها خلال عقود ـ نستطيع الآن عبر النانو تكنولوجي أن نتحكم بشكل كامل في طريقة تركيب المواد.
هذه معرفة خرافية، فنحن نتحكم في طريقة التركيب حتى على مستوى النانو، وهو شيء متناهي الدقة والصغر، وما دمنا ـ الآن وليس حتى في المستقبل ـ نتحكم بهذا الأمر في تركيب المواد، فيمكننا ببساطة أن نتحكم في خصائص هذه المواد بشكل كامل، كل هذا بفضل تقنيات النانو.
وأعتقد أن البشرية في المستقبل سوف تستخدم النانوتكنولوجي في أشياء كثيرة جداً.. مثلاً التخلص من النفايات والقمامة وأيضاً تقنية مياه الشرب من الملوثات (وهي من ضمن الموارد المتناقصة بالنسبة لعدد السكان)، فضلاً عن استخدام تقنيات النانو لتوليد الطاقة بكفاءة مذهلة، وهي أيضاً ضمن الموارد التي نحتاجها بشدة.
تقريباً سوف نستخدم النانو في كل شيء، حتى صناعة الأدوية التي تقضي على الأمراض المستعصية والقاتلة التي تفتك بالإنسان.
أيضاً ابتكار أدوات طبية تشكل نقلة عملاقة في قطاع الصحة. وكذلك يمكن عبر تقنيات النانو إعادة بناء الأنسجة البشرية التالفة.
سيكون لدينا القدرة الكاملة على ابتكار روبوتات تكتشف أعماق الفضاء واستعادة السلامة البيئية، وابتكار مركبات مريحة ورخيصة ومتطورة وذاتية القيادة. هناك ثورة تحدث بشائرها الآن لكن البعض يحب التشاؤم.
ستغير تكنولوجيات النانو من طريقة فهمنا للأمور، وستحدث ثورة كبيرة جداً في المستقبل على كافة الأصعدة، من علاج السرطان وحتى غزو الفضاء.
سنتمكن من تصنيع محفزات تسرع أو تبطئ من التفاعلات الكيميائية وهذه معجزة بكل ما تعني الكلمة، وتقنية ستنقذ حياة الملايين. وعبر النانوتكنولوجي سنتمكن من تصميم «أدوات جزيئية» تنفذ مهام شديدة التخصص والدقة.
ما أقوله هنا إن صناعات النانو سوف تذهلنا وكأننا خرجنا من الكهف للتو.
• هل ترى أن تمويل الأبحاث العلمية كافٍ للارتقاء بمستويات البحث العلمي والوصول إلى تلك الثورة التي تتحدث عنها؟
هناك فجوة كبيرة في التمويل بالطبع،.. لكن أعتقد أن الموارد ستوجه في المستقبل القريب إلى مجالات البيولوجيا الجزيئية، وعلوم المواد، وبالتالي سيتوفر التمويل لهذا العلم.
• الفيزياء مجال صعب للغاية.. كيف تحافظ على سلامة عقلك مع محاولة حل المشكلات الفيزيائية المعقدة؟
أقوم بتسلق الجبال.. نعم هذا هو الحل الذي ابتكرته، إذ حصلت مؤخراً على جائزة «سفير التسلق». فرياضة تسلق الجبال تساعدني كثيراً على استعادة صفاء ذهني.
• دعنا نتخيل أنك عدت بالزمن إلى الوراء، هل كنت ستختار الفيزياء كمادة تخصص؟
لا أعرف.. ربما كنت سأفضل دراسة الكمبيوتر والحاسبات. الفيزياء علم معقد وجميل.. ولكنه يجعلك تموت فقيراً في هذا الزمان.
• هل ما زلت تعمل في البحث العلمي إلى الآن؟
بالطبع، ومجال عملي البحثي ينصب على فهم مشكلة توازن الأنظمة.
• وهل تخطط للتقاعد في المستقبل؟
نعم.. حين أموت!
• ما تفسيرك لعدد النساء الحاصلات على نوبل في الفيزياء، والذي لا يزيد عن 3 سيدات فقط على مدى تاريخ نوبل الممتد لأكثر من 115 عاماً؟
النساء ذكيات، ويعلمن أن الفيزياء مجال شاق لا يجلب سوى المتاعب، لذا يفضلن دراسة الكيمياء والطب.
الحقيقة أيضاً أن هناك العديد من المصاعب والتحديات التى تواجه النساء في الحقل العلمي، وهناك التمييز ضد المرأة، إلا أن النساء يقمن بشق طريقهن في الوقت الحالي بالكد والاجتهاد.
• كيف أثرت جائزة نوبل على حياتك؟
لا أعلم على وجه الدقة لماذا فزت، أتساءل طيلة الوقت عن السبب الذي دعا اللجنة لاختيارى لذلك الشرف العظيم، زميلي البروفيسور ثاولوس يستحقها وحده. ومن المحزن أن يموت بعد سنوات قليلة من ذلك التكريم الذى ظل يبحث عنه طيلة حياته.
أصبحت دائم السفر، تتم دعوتي إلى المؤتمرات العلمية، وأصبحت أكثر اختلاطاً بشباب الباحثين.
• كيف ترى مستوى الباحثين العرب؟
تعاملت مع بعض الباحثين من المنطقة العربية.. هم في المجمل أذكياء، ويبذلون جهداً خارقاً لاكتساب المعرفة وتطوير أنفسهم، ولديهم خلفيات علمية قوية، هذا شيء مبشر بالفعل.