ا
كان الوقت مبكراً للغاية في الأسبوع الأول من أكتوبر الماضي، حين رن هاتف العالم غريغ سيمنزا، ليتلقى خبر حصوله على جائزة نوبل في الطب لعام 2019. عن أبحاثه الفريدة لكشف «آليات الحياة الأساسية» في ظل نقص الأكسجين، وكانت الجائزة بالمشاركة مع البريطاني بيتر راتكليف والأمريكي وليام كايلين.
«الرؤية» حاورت سيمنزا، وهو مدير برنامج الأوعية الدموية بمعهد هندسة الخلايا في كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز، ليكشف ـ في أول حوار مع وسيلة إعلام عربية ـ كيف توصل إلى اكتشافه، وتوقعاته للمستقبل، خصوصاً في مجال علاج الأمراض القاتلة، لا سيما مرض السرطان، وكيف يرى مستقبل البشرية والعلم.
• قال بيان فوزك بجائزة نوبل إنك كشفت آلية أساسية للطريقة التي يحيا بها الإنسان.. من أين أتت تلك الفكرة؟
بدأنا بمحاولة فهم الطريقة التي ينظم بها الجسم إنتاج هرمون أرثروبويتن، وهو الهرمون الذي يتحكم في إنتاج خلايا الدم الحمراء. في البداية حددنا تسلسل الحمض النووي في الجين المسؤول عن تلك العملية والمعروف باسم EPO، لنكتشف لاحقاً أنه المسؤول بشكل كامل عن التحكم في الطريقة التي يعمل بها الجسم في ظل ظروف انخفاض الأكسجين.
عندما تكون مستويات الأكسجين منخفضة في الدم، تستشعر الكلية هذا الانخفاض، فتبدأ في حث خلاياها على تصنيع لـ«أرثروبويتن»، إذ يتم إنتاج هذا الهرمون في الكلية بنسبة تفوق 80 % فيما ينتج الكبد جزءاً آخر منه. لذلك فإن الجسم لديه آلية للحفاظ على الحياة، فزيادة الهرمون ينتج عنها ارتفاعاً في مستوى كريات الدم الحمراء في نقي العظام لتعويض النقص الحاد في الأكسجين، إذ تقوم تلك الكريات بتعزيز نقل الأكسجين لخلايا الجسم. وهذا هو الاكتشاف الأول: وصلنا إلى الجين الذين يتحكم في الهرمون وعرفنا آلية الجسم في العمل تحت هذه الظروف.
الاكتشاف الثاني، كان أكثر تعقيداً، فبعد أن حددنا تسلسل الحمض النووي في جين EPO الذي يتحكم في الاستجابة لنقص الأكسجين، حددنا بعد ذلك البروتين المرتبط بتسلسل الحمض النووي لذلك الجين. ولاحظنا أن هذا البروتين يوجد في الخلايا في ظروف نقص الأكسجين ويغيب في حالة توافره بنسب عالية. أيضاً وجدنا البروتين ذاته موجوداً في جميع خلايا الجسم دون استثناء.
تتبعنا هذا الانتشار حتى وصلنا إلى وجود أكثر من 4000 تعبير جيني يتحكم فيها الجين HIF-1 في أنواع مختلفة من خلايا الجسم التي تتعرض لظروف أكسجين منخفضة.
• حسناً، كيف يؤثر هذا الكشف على البشر في المستقبل؟
وضح اكتشافنا آلية عامة تمثل استجابة بيولوجية موحدة في كل الكائنات الحية، يتمكن من خلالها الجسم في أن يُنسق الاستجابة لمستويات الأكسجين المنخفضة.
يعد هذا الاكتشاف حجر الأساس لفهم الكيفية التي تستهلك بها الكائنات الحية الأكسجين. وهو أمر يسهم في فهم أكبر لكثير من الأمراض المتعلقة بعملية الأيض. فعلى سبيل المثال، يسبب الخلل بتلك الآلية في الإصابة بمجموعة واسعة من الأمراض على رأسها السرطان. إذن نحن الآن نعرف «آلية الحياة» لذلك أصبح علاج السرطان مسألة وقت لا أكثر.
• البعض يقول إن جهود العلماء تتقلص بعد الفوز بجائزة نوبل.. فهل ستقلص أبحاثك؟
الحقيقة أن الأمر يختلف من شخص إلى آخر، وعن نفسي فإن أهدافي لم تختلف. مختبري يعمل كما هو، وما زلت أخطط للمستقبل وأمامي مسيرة بحثية طويلة أرغب في إنجازها. أود أن تترجم الاكتشافات التي قمت بها مشاركة مع زملائي من المجال البحثي إلى المجال الإكلينكي.
• هل يعني هذا أنك تشارك حالياً في حلم القضاء على «كابوس السرطان»؟
نعم، حالياً يعمل مختبري على تطوير مجموعة من العقاقير التي من شأنها أن تكون مفيدة في علاج السرطان، اعتماداً على مسار جين HIF-1. كما يحاول فريقي اكتشاف بعض العلاجات لأمراض العيون عبر حجب مسار الجين ذاته، إذ نعتقد أن هذا الحجب سيكون له تأثير مفيد في علاج المرضى.
وبالتوازي، نقضي الكثير من الوقت في تطوير مركبات كيميائية يُمكن أن تمنع نمو الأورام في النماذج الحيوانية. يبقى هدفي الرئيس هو إدراج البحث العلمي في ممارسة سريرية يكون لها تأثير في الصحة العامة.
• إذن كيف تتوقع طريق العلم للقضاء على السرطان؟
الوضع جيد جداً، وطريقنا مشرق للغاية. والمستقبل يحمل لنا وعوداً كثيرة، لذلك أعتقد أن السرطان إلى زوال. وأن العلاجات الجديدة والعقاقير التي دخلت طور التجارب ستسهم في شفاء ملايين المرضى حول العالم. العلم يخطو في هذا المجال خطوات واسعة لملاحقة المرض.
• هل تشارك في مثل هذه الأبحاث مع فريقك؟
بكل تأكيد، ينصب عملي الحالي على تطوير علاجات كيميائية قادرة على التغلب على مقاومة سرطان الثدي للعلاجات التقليدية، وأحاول التوصل إلى عقار يقتل الخلايا الجذعية في السرطان التي تُعد السبب الرئيس لمقاومة العلاج الكيميائي وانتشار سرطان الثدي في أعضاء أخرى. وهناك العديد من المعامل والجامعات الأخرى حول العالم التي تقوم بتنفيذ استراتيجيات مختلفة للقضاء على الأورام السرطانية.
وحالياً فإن مختبري يطور حزمة من الأدوية لعلاج الأورام.. والطريق إلى المستقبل في مجال العلاج واعد للغاية. فالعلم قادر على هزيمة الأورام السرطانية في المستقبل القريب.
• قضيت أكثر من 30 عاماً في جامعة جونز هوبكنز.. هل تعتقد أن العلماء يجب أن يستقروا في مكان واحد لفترة طويلة لتحقيق إنجاز؟
لا، ليس بالضرورة بالطبع. في حالتي، كنت محظوظاً جداً في العمل في جامعة جونز هوبكنز. وكنت محظوظاً أيضاً أن وجدت بيئة عمل تتوافق مع طريقتي في البحث بصورة لا يُمكن تصديقها. شعرت بأن هذه هي البيئة المثالية بالنسبة لي لإجراء بحثي، وبالتالي لم أكن بحاجة إلى البحث عن مكان آخر.
بعض الباحثين يحتاجون إلى البحث عن مكان ولا يحالفهم الحظ في المرة الأولى كما حالفني. وبالتالي فإن شرط الاستقرار غير ضروري للإنجاز البحثي. البعض ينتقل من جامعة إلى أخرى ويضع لبنة فوق لبنة ويستغل إمكانات مؤسسة تلو الأخرى حتى يصل إلى إجابة عن تساؤله. من حسن حظي أنني وجدت كل الإمكانات في مكان واحد.
• ما العقبات الرئيسة التي واجهتها في طريقك؟
واجهت عقبات كثيرة في مسار البحث ذاته، عقبات تتعلق بمحدودية تكنولوجيات الكشف عن تسلسل الجينات، علاوة على مشاكل أخرى تتعلق بمسار البحث. في بعض الأوقات لم نستطع التغلب على تلك العقبات، ما اضطرنا لتحويل مسار البحث ليلائم محدودية التقنيات في وقت الكشف. لكن هذه هي طبيعة البحث العلمي، بل الحقيقة أنها طبيعة الحياة ذاتها. يتعين على المرء أن يكون مستعداً للمثابرة في مواجهة العقبات.
• ولدت وسط أسرة كبيرة.. هل يمكن أن تخبرنا قليلاً عن حياتك المبكرة؟
كنت أكبر إخوتي. أسرتي مكونة من 5 أطفال علاوة على والدي وأمي. عائلة كبيرة. وكنت محظوظاً لأنني الأكبر سناً. حصلت على أكبر قدر من الاهتمام. لعب الحظ دوراً كبيراً في حياتي، فقد نشأت أيضاً في مدينة كانت فيها المدارس العامة ممتازة من حيث جودة التعليم، خصوصاً في المدرسة الثانوية. خلال دراستي في المدرسة الثانوية، كان لدي مدرس علوم أحياء رائع، أدين له بالفضل في حصولي على الجائزة، فهو الشخص الذي ألهمني في المقام الأول لأتوجه إلى علم الأحياء، هو من علمني الطريقة وأرشدني للطريق. زرع داخلي حب البحث العلمي، وهذا حقاً ما أحدث كل الفرق في شخصيتي. أنا مدين للتعليم الحكومي العام، ومدين لمدرس علوم الأحياء في المرحلة الثانوية، ومدين لكوني الطفل الأول في العائلة الكبيرة، ومدين لحظي الجيد.
• كيف تلقيت خبر فوزك بجائزة نوبل في البيولوجيا؟
أصبت بالذهول. أعتقد أن تلك الكلمة أفضل ما يمكن أن تصف مشاعري حين سمعت أني أحد الفائزين. حاولت استيعاب الموقف ولم أنجح حتى الآن.
• تعد قضية تمويل الأبحاث العلمية الأساسية إحدى أهم القضايا المثارة في الوقت الحالي.. هل ترى أن الحكومات تستثمر بصورة كافية في البحث العلمي؟
العائد من استثمار أموال دافعي الضرائب في البحث العلمي كبير جداً. فالاختراعات والاكتشافات تأتي عن طريق الاستثمار في الأبحاث العلمية الأساسية، وبالتالي فدفع الأموال في سبيل البحث العلمي لا يمكن أن يكون بأي شكل من الأشكال صدقة أو أموال مهدرة. يعد البحث العلمي إحدى دعائم الاقتصاد في الدول المتقدمة، ولم يعد مجرد أموال تُهدر على الرفاهية.
فيما يتعلق بالمجال الذي أعمل به، وهو مجال الصحة والبيولوجيا، فإن الأموال التي تصرف على الأبحاث تأتي بفوائد متنوعة، فابتكار الأدوية يعود على الشركات والجامعات بأرباح جيدة، كما أنه من الأفضل لكل من المرضى والحكومات المعنية البحث عن علاج الأمراض بشكل مبكر وعاجل. لذا، تضخ الهيئات والجهات الحكومية والخاصة الكثير من الأموال في ذلك المجال.
مقارنة مع بعض أوجه المصاريف والأغراض الأخرى التي تنفق من أجلها الأموال الحكومية، فإن الاستثمار في البحث العلمي أحد الأهداف التي يمكن أن تؤتي ثمارها حقاً ويمكن أن يكون لها فوائد كبيرة للمجتمع.
لكن ومع ذلك، فإن الكثير مما نقوم به الآن محدود للغاية بسبب عدم كفاية الأموال. لدينا أدوات قوية يمكن استخدامها، وأفكار جيدة يجب التحقق منها، لكن كلفة العمل عليها باهظة. وبالتالي، أناشد الجهات المانحة توفير الموارد للباحثين، وأوكد أن العوائد ستكون مُرضية للغاية.
• هل ترى أن هناك قيمة حقيقية لجائزة نوبل كحافز لدعم وازدهار البحث العلمي؟
الجائزة مهمة للغاية لأكثر من سبب. الأهمية الأولى طبقاً لفهمي هي كونها احتفالية تجعل الجمهور العام يدرك الكيفية التي تم العمل بها على بحوث علمية غاية في الأهمية. فإعلانها كل عام أكسبها مصداقية كبيرة لدى الجمهور، وهي مناسبة جيدة للغاية وذات موثوقية عالية تجعل العامة يفهمون الطريقة التي يتطور بها العلم والأسلوب الذي يعمل به الباحثون والعلماء.
لكن هناك أزمة حقيقية في كون الجوائز تمنح عادة للعلماء الأكبر سناً لاكتشافات قاموا بها وقتما كانوا شباباً. أخشى أن يفكر الجمهور في أن العلوم هي وظيفة الرجل العجوز، بينما هي في الواقع عمل شاب. أتمنى أن يكون لدينا وسيلة لإيصال ذلك الأمر إلى الجمهور.
قمنا بالاكتشافات في وقت مبكر من حياتنا المهنية، ولكننا حصلنا على الجائزة في وقت لاحق حين أصبحت أهمية تلك الاكتشافات واضحة. العلم عمل الشباب، يحتاج إلى دأبهم وقوتهم وأذهانهم المتقدة. تلك هي الرسالة التى يجب أن نوضحها، ونركز عليها، كعلماء حصلوا على الجائزة بالقرب من نهاية مسيرتهم البحثية.
• هناك تفاوت بين أعداد الرجال والنساء الفائزين بجائزة نوبل.. بمَ تفسر ذلك الأمر؟
نعلم في المجتمع العلمي تمام العلم أن الأمور التي تتعلق بالتوظيف والترقية وانتخاب الجمعيات الشرفية والجوائز تشهد تحيزاً تاريخياً واضحاً لمصلحة الذكور. للأسف، الجوائز في الغالب تتسم بالذكورية، وتعتمد على تقييمات قديمة ترى في جنس المرشح أحد العوامل التي تسهم في فوزه بالجائزة. ربما تغير ذلك الأمر الآن إلى حد ما، فهناك اعتراف أكبر بقيمة النساء في البحث العلمي.
وقبل سنوات، عملت كعضو في الأكاديمية الوطنية للعلوم، داخل لجنة تهدف إلى زيادة عدد النساء والأقليات في عضوية الأكاديمية. آمل أن يشهد المستقبل زيادة في عدد مقاعد الباحثات في الأكاديمية، وأن تقل تلك التباينات وأن تنظر اللجان المعنية بالجوائز إلى جوهر العمل البحثي بغض النظر عن جنس الباحث.
• تنتشر فكرة عامة بين الجمهور أن العلماء الحائزين نوبل لا يستمتعون بحياتهم، هل هذا صحيح؟
أنا شخص عادي. أحصل على 6 إلى 7 ساعات من النوم. ويمكن أن أنام أكثر، إذا أنجزت عملي في وقت مبكر. أحاول طيلة الوقت الموازنة بين العمل والراحة، ومع ذلك، أنا لا أعمل أبداً خلال عطلة نهاية الأسبوع.
• ما العادة التي دأبت عليها يومياً؟
شرب القهوة في الصباح، وحين وجدت أنني في طريق إدمان القهوة توقفت، إذ لا يدمن الباحث أي شيء سوى الشغف بالبحث العلمي.
• ما هو المصدر الذي يلهمك بالأفكار الجديدة؟
قراءة الأدب. ومن أبحاث زملائي. ومن التواصل مع الشباب. ومن العمل الدؤوب. في بعض الأحيان تأتي الفكرة من صدفة، ففي أوقات العمل يمكن أن يؤدي البحث إلى نتيجة غير متوقعة، تجعلنا نتخبط ونسير في اتجاهات لا يمكن التنبؤ بنتائجها، الحقيقة أن جوهر البحث العلمي وما يجعله عملاً ممتعاً هو أننا لا نعرف أبداً ما ستنتهي إليه افتراضاتنا.
• هل ترى أن الباحث يجب أن يكون مبدعاً، وهل تعتبر العلم نوعاً من الإبداع مثل الأدب؟
دون إبداع لن نتحرك خطوة واحدة إلى الأمام في مجال البحث العلمي. ولن ننجز بابتكار واحد أو اكتشاف جديد. الإبداع هو أساس البحث العلمي. والقدرة أصلاً على وضع فرضية هي مهمة لا يمكن أن يقوم بها سوى مبدع.
القفزات الكبيرة التي حدثت في العلوم وستحدث في المستقبل، جاءت نتيجة مباشرة للاعتماد على الخيال الإبداعي. دعنا ننظر إلى ميكانيكا الكم، ونسبية آينشتاين، وابتكار العلاج المناعي، وفك شفرة الجينوم البشري، كلها أمور لا يمكن أن تصدر إلا عن مبدعين.
• ما نصيحتك للشباب في المنطقة العربية؟
نصيحتي للعلماء الشباب في كل مكان هي العثور على مختبر يديره باحث جيد. شخص يهتم بك شخصياً ويكون بمنزلة قدوة. من المهم أيضاً العمل على مشكلة مثيرة.
أنصحهم أيضاً بالعمل الجاد. وأتمنى أن يقف الحظ بجانبهم كما وقف بجانبي. يجب أن يعمل الباحث في مجال يحبه، كنت محظوظاً للغاية لأنني وجدت العمل الذي أتمناه. في مجال البحث العلمي إذا لم تكن شغوفاً فلن تُنجز أي شيء.
يجب على الباحث الشاب أيضاً توطيد علاقاته مع العلماء الآخرين في مختلف أنحاء العالم. أنصحهم أيضاً بالعمل في مناخ داعم للحرية، فالإبداع لا يمكن أن يخرج من داخلنا إلا في ذلك المناخ الحر.
أقول للشباب استمتعوا بما تفعلون، واعتبروا أنفسكم محظوظين لكونكم تعملون في مهنة تسعى لتحسين حياة نوعنا، ورفع مستويات رفاهة جنسنا البشري. أنت المستقبل، اعلموا أنكم تسدون خدمة كبيرة للبشرية، فدون العلم لا يمكن أن تستمر الحياة، يجب أن تفخروا بكونكم علماء، فأنتم حراس المعرفة وسدنة الحياة.
«الرؤية» حاورت سيمنزا، وهو مدير برنامج الأوعية الدموية بمعهد هندسة الخلايا في كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز، ليكشف ـ في أول حوار مع وسيلة إعلام عربية ـ كيف توصل إلى اكتشافه، وتوقعاته للمستقبل، خصوصاً في مجال علاج الأمراض القاتلة، لا سيما مرض السرطان، وكيف يرى مستقبل البشرية والعلم.
• قال بيان فوزك بجائزة نوبل إنك كشفت آلية أساسية للطريقة التي يحيا بها الإنسان.. من أين أتت تلك الفكرة؟
عندما تكون مستويات الأكسجين منخفضة في الدم، تستشعر الكلية هذا الانخفاض، فتبدأ في حث خلاياها على تصنيع لـ«أرثروبويتن»، إذ يتم إنتاج هذا الهرمون في الكلية بنسبة تفوق 80 % فيما ينتج الكبد جزءاً آخر منه. لذلك فإن الجسم لديه آلية للحفاظ على الحياة، فزيادة الهرمون ينتج عنها ارتفاعاً في مستوى كريات الدم الحمراء في نقي العظام لتعويض النقص الحاد في الأكسجين، إذ تقوم تلك الكريات بتعزيز نقل الأكسجين لخلايا الجسم. وهذا هو الاكتشاف الأول: وصلنا إلى الجين الذين يتحكم في الهرمون وعرفنا آلية الجسم في العمل تحت هذه الظروف.
الاكتشاف الثاني، كان أكثر تعقيداً، فبعد أن حددنا تسلسل الحمض النووي في جين EPO الذي يتحكم في الاستجابة لنقص الأكسجين، حددنا بعد ذلك البروتين المرتبط بتسلسل الحمض النووي لذلك الجين. ولاحظنا أن هذا البروتين يوجد في الخلايا في ظروف نقص الأكسجين ويغيب في حالة توافره بنسب عالية. أيضاً وجدنا البروتين ذاته موجوداً في جميع خلايا الجسم دون استثناء.
تتبعنا هذا الانتشار حتى وصلنا إلى وجود أكثر من 4000 تعبير جيني يتحكم فيها الجين HIF-1 في أنواع مختلفة من خلايا الجسم التي تتعرض لظروف أكسجين منخفضة.
• حسناً، كيف يؤثر هذا الكشف على البشر في المستقبل؟
وضح اكتشافنا آلية عامة تمثل استجابة بيولوجية موحدة في كل الكائنات الحية، يتمكن من خلالها الجسم في أن يُنسق الاستجابة لمستويات الأكسجين المنخفضة.
يعد هذا الاكتشاف حجر الأساس لفهم الكيفية التي تستهلك بها الكائنات الحية الأكسجين. وهو أمر يسهم في فهم أكبر لكثير من الأمراض المتعلقة بعملية الأيض. فعلى سبيل المثال، يسبب الخلل بتلك الآلية في الإصابة بمجموعة واسعة من الأمراض على رأسها السرطان. إذن نحن الآن نعرف «آلية الحياة» لذلك أصبح علاج السرطان مسألة وقت لا أكثر.
• البعض يقول إن جهود العلماء تتقلص بعد الفوز بجائزة نوبل.. فهل ستقلص أبحاثك؟
الحقيقة أن الأمر يختلف من شخص إلى آخر، وعن نفسي فإن أهدافي لم تختلف. مختبري يعمل كما هو، وما زلت أخطط للمستقبل وأمامي مسيرة بحثية طويلة أرغب في إنجازها. أود أن تترجم الاكتشافات التي قمت بها مشاركة مع زملائي من المجال البحثي إلى المجال الإكلينكي.
• هل يعني هذا أنك تشارك حالياً في حلم القضاء على «كابوس السرطان»؟
نعم، حالياً يعمل مختبري على تطوير مجموعة من العقاقير التي من شأنها أن تكون مفيدة في علاج السرطان، اعتماداً على مسار جين HIF-1. كما يحاول فريقي اكتشاف بعض العلاجات لأمراض العيون عبر حجب مسار الجين ذاته، إذ نعتقد أن هذا الحجب سيكون له تأثير مفيد في علاج المرضى.
وبالتوازي، نقضي الكثير من الوقت في تطوير مركبات كيميائية يُمكن أن تمنع نمو الأورام في النماذج الحيوانية. يبقى هدفي الرئيس هو إدراج البحث العلمي في ممارسة سريرية يكون لها تأثير في الصحة العامة.
• إذن كيف تتوقع طريق العلم للقضاء على السرطان؟
الوضع جيد جداً، وطريقنا مشرق للغاية. والمستقبل يحمل لنا وعوداً كثيرة، لذلك أعتقد أن السرطان إلى زوال. وأن العلاجات الجديدة والعقاقير التي دخلت طور التجارب ستسهم في شفاء ملايين المرضى حول العالم. العلم يخطو في هذا المجال خطوات واسعة لملاحقة المرض.
• هل تشارك في مثل هذه الأبحاث مع فريقك؟
بكل تأكيد، ينصب عملي الحالي على تطوير علاجات كيميائية قادرة على التغلب على مقاومة سرطان الثدي للعلاجات التقليدية، وأحاول التوصل إلى عقار يقتل الخلايا الجذعية في السرطان التي تُعد السبب الرئيس لمقاومة العلاج الكيميائي وانتشار سرطان الثدي في أعضاء أخرى. وهناك العديد من المعامل والجامعات الأخرى حول العالم التي تقوم بتنفيذ استراتيجيات مختلفة للقضاء على الأورام السرطانية.
وحالياً فإن مختبري يطور حزمة من الأدوية لعلاج الأورام.. والطريق إلى المستقبل في مجال العلاج واعد للغاية. فالعلم قادر على هزيمة الأورام السرطانية في المستقبل القريب.
• قضيت أكثر من 30 عاماً في جامعة جونز هوبكنز.. هل تعتقد أن العلماء يجب أن يستقروا في مكان واحد لفترة طويلة لتحقيق إنجاز؟
لا، ليس بالضرورة بالطبع. في حالتي، كنت محظوظاً جداً في العمل في جامعة جونز هوبكنز. وكنت محظوظاً أيضاً أن وجدت بيئة عمل تتوافق مع طريقتي في البحث بصورة لا يُمكن تصديقها. شعرت بأن هذه هي البيئة المثالية بالنسبة لي لإجراء بحثي، وبالتالي لم أكن بحاجة إلى البحث عن مكان آخر.
بعض الباحثين يحتاجون إلى البحث عن مكان ولا يحالفهم الحظ في المرة الأولى كما حالفني. وبالتالي فإن شرط الاستقرار غير ضروري للإنجاز البحثي. البعض ينتقل من جامعة إلى أخرى ويضع لبنة فوق لبنة ويستغل إمكانات مؤسسة تلو الأخرى حتى يصل إلى إجابة عن تساؤله. من حسن حظي أنني وجدت كل الإمكانات في مكان واحد.
• ما العقبات الرئيسة التي واجهتها في طريقك؟
واجهت عقبات كثيرة في مسار البحث ذاته، عقبات تتعلق بمحدودية تكنولوجيات الكشف عن تسلسل الجينات، علاوة على مشاكل أخرى تتعلق بمسار البحث. في بعض الأوقات لم نستطع التغلب على تلك العقبات، ما اضطرنا لتحويل مسار البحث ليلائم محدودية التقنيات في وقت الكشف. لكن هذه هي طبيعة البحث العلمي، بل الحقيقة أنها طبيعة الحياة ذاتها. يتعين على المرء أن يكون مستعداً للمثابرة في مواجهة العقبات.
• ولدت وسط أسرة كبيرة.. هل يمكن أن تخبرنا قليلاً عن حياتك المبكرة؟
كنت أكبر إخوتي. أسرتي مكونة من 5 أطفال علاوة على والدي وأمي. عائلة كبيرة. وكنت محظوظاً لأنني الأكبر سناً. حصلت على أكبر قدر من الاهتمام. لعب الحظ دوراً كبيراً في حياتي، فقد نشأت أيضاً في مدينة كانت فيها المدارس العامة ممتازة من حيث جودة التعليم، خصوصاً في المدرسة الثانوية. خلال دراستي في المدرسة الثانوية، كان لدي مدرس علوم أحياء رائع، أدين له بالفضل في حصولي على الجائزة، فهو الشخص الذي ألهمني في المقام الأول لأتوجه إلى علم الأحياء، هو من علمني الطريقة وأرشدني للطريق. زرع داخلي حب البحث العلمي، وهذا حقاً ما أحدث كل الفرق في شخصيتي. أنا مدين للتعليم الحكومي العام، ومدين لمدرس علوم الأحياء في المرحلة الثانوية، ومدين لكوني الطفل الأول في العائلة الكبيرة، ومدين لحظي الجيد.
• كيف تلقيت خبر فوزك بجائزة نوبل في البيولوجيا؟
أصبت بالذهول. أعتقد أن تلك الكلمة أفضل ما يمكن أن تصف مشاعري حين سمعت أني أحد الفائزين. حاولت استيعاب الموقف ولم أنجح حتى الآن.
• تعد قضية تمويل الأبحاث العلمية الأساسية إحدى أهم القضايا المثارة في الوقت الحالي.. هل ترى أن الحكومات تستثمر بصورة كافية في البحث العلمي؟
العائد من استثمار أموال دافعي الضرائب في البحث العلمي كبير جداً. فالاختراعات والاكتشافات تأتي عن طريق الاستثمار في الأبحاث العلمية الأساسية، وبالتالي فدفع الأموال في سبيل البحث العلمي لا يمكن أن يكون بأي شكل من الأشكال صدقة أو أموال مهدرة. يعد البحث العلمي إحدى دعائم الاقتصاد في الدول المتقدمة، ولم يعد مجرد أموال تُهدر على الرفاهية.
فيما يتعلق بالمجال الذي أعمل به، وهو مجال الصحة والبيولوجيا، فإن الأموال التي تصرف على الأبحاث تأتي بفوائد متنوعة، فابتكار الأدوية يعود على الشركات والجامعات بأرباح جيدة، كما أنه من الأفضل لكل من المرضى والحكومات المعنية البحث عن علاج الأمراض بشكل مبكر وعاجل. لذا، تضخ الهيئات والجهات الحكومية والخاصة الكثير من الأموال في ذلك المجال.
مقارنة مع بعض أوجه المصاريف والأغراض الأخرى التي تنفق من أجلها الأموال الحكومية، فإن الاستثمار في البحث العلمي أحد الأهداف التي يمكن أن تؤتي ثمارها حقاً ويمكن أن يكون لها فوائد كبيرة للمجتمع.
لكن ومع ذلك، فإن الكثير مما نقوم به الآن محدود للغاية بسبب عدم كفاية الأموال. لدينا أدوات قوية يمكن استخدامها، وأفكار جيدة يجب التحقق منها، لكن كلفة العمل عليها باهظة. وبالتالي، أناشد الجهات المانحة توفير الموارد للباحثين، وأوكد أن العوائد ستكون مُرضية للغاية.
• هل ترى أن هناك قيمة حقيقية لجائزة نوبل كحافز لدعم وازدهار البحث العلمي؟
الجائزة مهمة للغاية لأكثر من سبب. الأهمية الأولى طبقاً لفهمي هي كونها احتفالية تجعل الجمهور العام يدرك الكيفية التي تم العمل بها على بحوث علمية غاية في الأهمية. فإعلانها كل عام أكسبها مصداقية كبيرة لدى الجمهور، وهي مناسبة جيدة للغاية وذات موثوقية عالية تجعل العامة يفهمون الطريقة التي يتطور بها العلم والأسلوب الذي يعمل به الباحثون والعلماء.
لكن هناك أزمة حقيقية في كون الجوائز تمنح عادة للعلماء الأكبر سناً لاكتشافات قاموا بها وقتما كانوا شباباً. أخشى أن يفكر الجمهور في أن العلوم هي وظيفة الرجل العجوز، بينما هي في الواقع عمل شاب. أتمنى أن يكون لدينا وسيلة لإيصال ذلك الأمر إلى الجمهور.
قمنا بالاكتشافات في وقت مبكر من حياتنا المهنية، ولكننا حصلنا على الجائزة في وقت لاحق حين أصبحت أهمية تلك الاكتشافات واضحة. العلم عمل الشباب، يحتاج إلى دأبهم وقوتهم وأذهانهم المتقدة. تلك هي الرسالة التى يجب أن نوضحها، ونركز عليها، كعلماء حصلوا على الجائزة بالقرب من نهاية مسيرتهم البحثية.
• هناك تفاوت بين أعداد الرجال والنساء الفائزين بجائزة نوبل.. بمَ تفسر ذلك الأمر؟
نعلم في المجتمع العلمي تمام العلم أن الأمور التي تتعلق بالتوظيف والترقية وانتخاب الجمعيات الشرفية والجوائز تشهد تحيزاً تاريخياً واضحاً لمصلحة الذكور. للأسف، الجوائز في الغالب تتسم بالذكورية، وتعتمد على تقييمات قديمة ترى في جنس المرشح أحد العوامل التي تسهم في فوزه بالجائزة. ربما تغير ذلك الأمر الآن إلى حد ما، فهناك اعتراف أكبر بقيمة النساء في البحث العلمي.
وقبل سنوات، عملت كعضو في الأكاديمية الوطنية للعلوم، داخل لجنة تهدف إلى زيادة عدد النساء والأقليات في عضوية الأكاديمية. آمل أن يشهد المستقبل زيادة في عدد مقاعد الباحثات في الأكاديمية، وأن تقل تلك التباينات وأن تنظر اللجان المعنية بالجوائز إلى جوهر العمل البحثي بغض النظر عن جنس الباحث.
• تنتشر فكرة عامة بين الجمهور أن العلماء الحائزين نوبل لا يستمتعون بحياتهم، هل هذا صحيح؟
أنا شخص عادي. أحصل على 6 إلى 7 ساعات من النوم. ويمكن أن أنام أكثر، إذا أنجزت عملي في وقت مبكر. أحاول طيلة الوقت الموازنة بين العمل والراحة، ومع ذلك، أنا لا أعمل أبداً خلال عطلة نهاية الأسبوع.
• ما العادة التي دأبت عليها يومياً؟
شرب القهوة في الصباح، وحين وجدت أنني في طريق إدمان القهوة توقفت، إذ لا يدمن الباحث أي شيء سوى الشغف بالبحث العلمي.
• ما هو المصدر الذي يلهمك بالأفكار الجديدة؟
قراءة الأدب. ومن أبحاث زملائي. ومن التواصل مع الشباب. ومن العمل الدؤوب. في بعض الأحيان تأتي الفكرة من صدفة، ففي أوقات العمل يمكن أن يؤدي البحث إلى نتيجة غير متوقعة، تجعلنا نتخبط ونسير في اتجاهات لا يمكن التنبؤ بنتائجها، الحقيقة أن جوهر البحث العلمي وما يجعله عملاً ممتعاً هو أننا لا نعرف أبداً ما ستنتهي إليه افتراضاتنا.
• هل ترى أن الباحث يجب أن يكون مبدعاً، وهل تعتبر العلم نوعاً من الإبداع مثل الأدب؟
دون إبداع لن نتحرك خطوة واحدة إلى الأمام في مجال البحث العلمي. ولن ننجز بابتكار واحد أو اكتشاف جديد. الإبداع هو أساس البحث العلمي. والقدرة أصلاً على وضع فرضية هي مهمة لا يمكن أن يقوم بها سوى مبدع.
القفزات الكبيرة التي حدثت في العلوم وستحدث في المستقبل، جاءت نتيجة مباشرة للاعتماد على الخيال الإبداعي. دعنا ننظر إلى ميكانيكا الكم، ونسبية آينشتاين، وابتكار العلاج المناعي، وفك شفرة الجينوم البشري، كلها أمور لا يمكن أن تصدر إلا عن مبدعين.
• ما نصيحتك للشباب في المنطقة العربية؟
نصيحتي للعلماء الشباب في كل مكان هي العثور على مختبر يديره باحث جيد. شخص يهتم بك شخصياً ويكون بمنزلة قدوة. من المهم أيضاً العمل على مشكلة مثيرة.
أنصحهم أيضاً بالعمل الجاد. وأتمنى أن يقف الحظ بجانبهم كما وقف بجانبي. يجب أن يعمل الباحث في مجال يحبه، كنت محظوظاً للغاية لأنني وجدت العمل الذي أتمناه. في مجال البحث العلمي إذا لم تكن شغوفاً فلن تُنجز أي شيء.
يجب على الباحث الشاب أيضاً توطيد علاقاته مع العلماء الآخرين في مختلف أنحاء العالم. أنصحهم أيضاً بالعمل في مناخ داعم للحرية، فالإبداع لا يمكن أن يخرج من داخلنا إلا في ذلك المناخ الحر.
أقول للشباب استمتعوا بما تفعلون، واعتبروا أنفسكم محظوظين لكونكم تعملون في مهنة تسعى لتحسين حياة نوعنا، ورفع مستويات رفاهة جنسنا البشري. أنت المستقبل، اعلموا أنكم تسدون خدمة كبيرة للبشرية، فدون العلم لا يمكن أن تستمر الحياة، يجب أن تفخروا بكونكم علماء، فأنتم حراس المعرفة وسدنة الحياة.