الصفحة ٢٩٣ من القرآن الكريم هي الصفحة الجامعة لقلوب المسلمين في يوم الجمعة عندما يشرعون في قراءة سورة الكهف، فأينما وليت وجهك شرقاً وغرباً وتناولت مصحفاً مطبوعاً بالرسم العثماني فستجد أن جهة الطباعة أياً كانت قد تعمدت توحيد الخط والجزء والحزب في المكان نفسه في كل صفحة، وإذا رجعت إلى المصاحف الصفراء التي لا يزال بعض كبار السن يحتفظون بها فستجدها قد خطت بخط فائق الجمال والروعة، إلا أنك لن تستطيع مواصلة القراءة فيها لأنك لم تعرف إلا خطاً واحداً وهو خط مصحف الملك فهد رحمه الله الذي أصبحت شهرته تغني عن نسبته. إن هذه الرمزية الفنية تقودنا إلى منشود القرآن الأول المتمثل في عقيدة التوحيد، فالمؤمن بفطرته يوحد الله - الذي لا شريك له ولا ند - بعيداً عن القوالب الاسمنتية التي وضعها من ثلث التوحيد إلى ربوبية وألوهية وأسماء وصفات، يوحده كما وحده رسول الله بكلمة «لا إله إلا الله» دون زيادة ولا نقصان وبدون شروط مسبقة، فهذه كلمة التوحيد التي هي حصن المؤمن الذي إذا دخله أمن عذابه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تغتر بمن صنع حصوناً موازية لهذا الحصن ليعذب من يشاء وينعم من يشاء وكأنه يملك مفاتح الجنة والنار. لا يهم كثيراً كيف نزل القرآن، وليس المهم الخلاف فيما كان أوله وأوسطه وآخره، المهم أنه نزل، والأهم من ذلك كله أنه نزل على حسب حاجة السائلين، فلا إيجاز مخل ولا إطناب ممل، اكتفى بذكر أصول العلوم ليترك للناس الضرب في فروعها، فقارن بين الكم القرآني المحسوب على حاجة الناس وبين الفضائيات التي صارت تتحدث باسم القرآن ليل نهار حتى وجدنا من يمارس النصب والدجل والشعوذة وتفسير الأحلام والأوهام باسم القرآن، وبدلاً من تلاوته والتخلق بأخلاقه والسياحة في ملكوت آياته، تجد من جعل من هذا الكتاب «سين جيم» ليبحث في لون بقرة بني إسرائيل أو السورة التي لا يوجد فيها حرف الميم. صار بعض المسلمين لاشعورياً لا يقتنعون بالقرآن منفرداً حتى رأينا من يقول إن القرآن أحوج إلى السنة من حاجة السنة إلى القرآن، ومنهم من جعل السنة مهيمنة على القرآن ومعطلة لأحكامه، حتى قيل إن علي بن أبي طالب في حربه مع الخوارج بعث ابن عباس ليناظرهم، فلما شعر أن الخوارج لن يقتنعوا بالقرآن طلب من ابن عباس عدم محاججتهم بالقرآن، لأنهم كلا الطرفين سيحتج على الطرف المقابل بـ «قال الله»، فاكتفى ابن عباس بمحاججتهم بالسنة. لقد ألف كثير من المستشرقين كتباً ليطفئوا نور هذا الكتاب بأفواههم لكنه ظل كما هو، نور على نور، لم يثرني كتاب (تاريخ القرآن) للمستشرق الألماني «نولدكه» والذي ضرب فيه أخماساً من الباطل بأسداس من التخليط، فكل ذلك كان لا يثير الاستغراب بحكم أن كاتبه غير مسلم مما يقوي شبهة التحامل والانتقائية، لكن كل ذلك لم يثرني بقدر ما آثرني (كتاب المصاحف) لابن أبي داود السجستاني المتوفى في القرن الرابع هجري والذي كان أهم مصادر «نولدكه» في الطعن في القرآن الكريم، ولعل هذا ما حدا والد مؤلف الكتاب وهو صاحب «سنن أبي داود» باتهامه بالكذب، والأب أعلم بابنه من الناس أجمعين، فكانت النتيجة أن ما خطه بعض المستشرقين اليوم هو حصيلة ما كتبه بعض المسلمين منذ ألف سنة. قيل إن من بين 160 ألف مسألة فقهية في كتب الفقه، ينحصر الخلاف بين المسلمين بمذاهبهم الثمانية في 4000 مسألة أو يزيدون، فلماذا تفرقهم الـ 4000 ولا تقربهم الـ 156 ألفاً المتبقية؟ وفي هذا اليوم الفضيل، ومن على جبل عرفة، يتوحد المسلمون بدنياً وروحياً على مثل ما جمعهم رسول الله من أجل الغفران الرباني الذي بدأ طريقه من هذا القرآن العظيم، الذي ولد في مكة المكرمة ويثرب المنورة، وإليهما يعود. o.hammadi@alroeya.com