كتب الإمام السيوطي كتابه «تاريخ الخلفاء»، ليؤرخ لمنصب الخلافة السنية مبتدئاً بعهد دولة الراشدين معرجاً على عهد الأمويين ومنتهياً عند عهد العباسيين في عصره، والذين انتهى حكمهم الشكلي سنة 1534م حينما انتقل المتوكل من القاهرة إلى اسطنبول، وأوصى أن تنتقل الخلافة عند موته إلى السلطان العثماني سليم الثاني مصحوبة بسيف رسول الله وبردته. الكتابة عن خليفة لا تفصلنا عنه زمنياً سوى مئة سنة تبدو أسهل من الكتابة عن خليفة عباسي تفصلنا عنه مئات السنين، أو خليفة أموي تفصلنا عنه ألف من السنين، لكن خليفتنا هذا كان أكثر تعقيداً من هارون الرشيد الذي قيل إنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً، وقيل أيضاً إنه يقيم حفلات الطرب المباح مع ملكات اليمين أعواماً أخرى، ما جعل الناس يحتارون في أي خانة يضعونه؟ أفي خانة الخلفاء العباد، أم في خانة الخلفاء المجان؟ هذا لأن طرفي المعادلة نسيا أن هارون وأجداد هارون ما هم إلا بشر يعصون ويطيعون تماماً كباقي البشر، بل إن الشيخ علي الطنطاوي كان يرى أن هارون مصاب بعقدة نفسية تجعله في قرارة نفسه محباً للإصلاح والتقوى، لكنه لم يستطع التوفيق بين هذه المحبة وأعماله، فتراه فجأة يهج من مجلس الغناء ليصلي مئة ركعة، فتخدع هذه الصلاة المؤرخين، فينكرون روايات الطرب كلها. أما آخر خلفاء بني عثمان الفعليين والذي كان يحكم 30 مليون مواطن عثماني، عبدالحميد الثاني، فهو شخصية غامضة حيرت كل من قابله حتى أصبح لغزاً أمام دول عظمى مثل بريطانيا وفرنسا وأمريكا، والذين كانوا سابقاً يعتبرونه أميراً مغلوباً على أمره، إلا أن هذا الضعيف تمكن من تأخير سقوط خلافته أكثر من أربعين عاماً، وتمكن من إسقاط ديون متضاعفة على خزينة دولته، وكان له فضل بناء أول سكة حديدية تربط قلب إمبراطوريته بالقبر النبوي الشريف. أمير المؤمنين هذا أمر بالمشاركة في معرض شيكاغو العالمي في العام 1893 بمناسبة مرور 400 سنة على اكتشاف كولومبس لأمريكا، واشتعل غضباً حينما قدّم له عرض يمثل الدراويش وحلقاتهم الراقصة التي كانت تقدم عروضاً للمتعة الغربية، وأصر على أن تكون المشاركة في أجنحة المعرض بمسجد مصغر، وأن يكون مكان الجناح في وسط المعرض، وأن يكون ظاهراً للعيان، تتوسطه حلقات الفرقة المولوية بجانب المصلين، مع رفضه وضع تماثيل في محال المنتجات العثمانية، والعجيب أن مصر العظيمة شاركت في المعرض بمجموعة من الحمير. يقال إن أمير المؤمنين ختم صحيح البخاري، وإليه تنسب الطبعة الحميدية لهذا الكتاب، في معركة البوسفور حتى تم له النصر، لكن ما لم يقل إن من قراءات أمير المؤمنين الأخرى رواية شارلوك هومز البوليسية لكونان دويل الذي كان يراه يصلح لمنصب قائد الشرطة. على الجانب الطبي، كان السلطان عبدالحميد من أوائل من دعم باستور، صاحب لقاح الكلب rabies، بآلاف الجنيهات في العام 1885، وأمر بفتح مختبرات وعيادات خاصة لهذا اللقاح، وظهر أول كتاب عثماني في هذا الداء سنة 1886 للدكتور حسين رمزي بيك، بل إن الباحثين الأمريكيين في ذلك الوقت أطلقوا على اسم أحد السيرومات serums اسم عبدالحميد اعترافاً بفضله. وعبدالحميد كان من أوائل من اهتموا بالتصوير الفوتوغرافي، حيث أرسل أكثر من 30 ألف صورة من مختلف مدن سلطنته إلى أمريكا وبريطانيا، في حين أن البعض ما زال يحرم هذا التصوير في العام 2013 بحجة أنه مضاهاة لخلق الله، ولم يكن أمير المؤمنين متعصباً للموسيقى الشرقية على حساب الغربية، فكان يدعو كبار ملحني الغرب لتقديم مسرحياتهم الغنائية (الأوبرا) في قصر يلدز. يسجل المؤرخ المشهور برنارد لويس أن عصر عبدالحميد هو الأغزر في صناعة الكتب، فمن بين 4000 كتاب صدرت في 14 عاماً كان هناك 1000 كتاب في العلوم والفنون، و200 كتاب في علوم الدين، ومع أن فيكتور هوغو، صاحب رائعة البؤساء، كان معروفاً بعدائه للعثمانيين كما تجلى ذلك في كتابه «الشرقيون»، إلا أن ذلك لم يمنع عبدالحميد من إرسال برقية تعزية إلى عائلة هوغو حين وفاته اعترافاً منه بعالمية رواياته. على الرغم من انتشار المذهب الإباضي في زنجبار فإنه بعد زيارة السلطان سيد علي بن حميد الخليفة في اسطنبول فقد كان الدعاء يرفع للخليفة السني في خطب الجمعة، وهذا يدل أن الخلاف المذهبي لا يحل عن طريق قصاصات الكتب الصفراء التي يتقاذفها المتخالفون، فشيطنة «الآخر» نبتت من أشلاء هذه الكتب التي تنقل قالوا وقيل ويقول ويزعمون. للتواصل مع الكاتب o.hammadi@alroeya.com