آمال هشام السعدي

من منا لا يراوده حلم العودة إلى مقاعد الدراسة، لا ليسمع أستاذ اللغة العربية وهو يوبخ الطلبة لأنهم نصبوا الفاعل ورفعوا المضاف إليه، وليس لسماع صوت مدرس الرياضيات من العهد القومي وهو يصدع بعبارة كل (جبار ظالم جاته داهية) والتي تعني رياضياً شيئاً عظيماً بعظمة «فيثاغورث» يحل ألغاز «جا» و«جتا» وأخواتهما، وليس لسماع صوت مدرس الإنجليزي وهو يعلمنا «سانكيو فيري ماش» والتي تعني شكراً جزيلاً، بل يحدونا الحلم إلى تذكر تلك اللحظات الجميلة التي عشناها في فصل واحد مكون من 30 طالباً أو يزيدون. مع إشراقة كل يوم صباح كنت أول شخص أركب باص المدرسة وآخر شخص أنزل منه بسبب أن وزارة المواصلات لم تجد موقعاً لإنشاء موقف الباصات إلا بجانب منزلي، لكن كان يخفف عني هذا المشوار الطويل نسائم المكيف الخارجي الذي لا يعمل إلا عندما يتحرك الباص، وبمجرد حركة الباص تهب النسائم مرة أخرى على العرق البارد لتجعل منه برداً وسلاماً. بعد انتهاء مراسم «مدرسة صفا» و«مدرسة انتباه» ثم الرياضة الصباحية التي أشك أنها تستطيع حرق سعرة حرارية واحدة، نتوجه للفصول بعد ما أنتج كل طالب كمية من العرق تتناسب مع موقعه من المظلة التي لا يقف تحتها إلا الهيئة الإدارية والمدرسون وبعض الطلبة المرضيين في الطابور الصباحي .. ثم يبدأ اليوم الدراسي. تمر الحصة الواحدة ذات الـ 45 دقيقة مثل الـ 45 سنة، ولا ينقذنا منها سوى الجرس الذي ما يلبث بعده أن يدخل علينا أستاذ تلو الآخر إلى أن يدق جرس الخروج الكبير إلى الساحة، وتتوجه الطلائع المحاربة إلى طابور المقصف الذي يقف بطريقة عرضية أمام نافذته، والكل يريد أن يشتري في وقت واحد، ولا أنسى فضل بعض الطلبة الأشاوس الذين قدموا أجسادهم رخيصة في سبيل الفصل، لكي يأكل ويشرب قبل أن تنفذ سندويشات الفلافل. بعد ثلاث حصص أخرى من العيار الثقيل تطلق صفارة الإنذار وينطلق الزحف إلى الباصات الصفراء، كل يبحث عن «ويندو سيت» حتى لا يهلك من لهيب الشمس الحارقة في منتصف الظهيرة. مَن مِن أبناء المدارس الحكومية لم يضرب بالعصا المزخرفة بأزهى ألوان الطيف؟ ومع ذلك لم يصب بالأمراض النفسية التي يتحدثون عنها اليوم، من منهم لم يطرد من الفصل بسبب ممارسة رياضة «التصفير»؟ ومع ذلك لم يصب بالاكتئاب الحاد الذي اضطره إلى إيقاف «السيمستر»، من منهم لم يقف في آخر الصف مدبر الوجه رافعاً يديه وإحدى رجليه إلى السماء بسبب رشقه زملاءه بالطباشير؟ ومع ذلك لم يصب بالضمور العضلي الحاد. صحيح أنه لم يكن عندنا تلك الإمكانات المتوفرة في المدارس الخاصة من مدرسين من أصحاب الشهادات المتعددة ومقاصف «فايف ستارز» وباصات مكيفة وساحات مظللة ومدرسي إنجليزية من ذوي اللكنة الفيكتورية، إلا أننا كنا نملك ما هو أهم من ذلك كله وهو أن مدرستنا كانت مدرسة حياة وليست مدرسة تعليم مواد فحسب، فالبيئة المدرسية كانت تدفع الطالب لتعلم الحياة كما هي وبدون رتوش «المستر» و«الميس». قد يخطئ أحدنا ويختلس نظرة إلى ورقة صاحبه، لكن لم يراود أحدنا فكرة أن «يساحل» المدرس لكي يسرب له أسئلة الامتحان كما كان شائعاً عن بعض المدارس «الأخرى». انتهينا من الثانوية العامة وانتهت معها أجمل فترة من فترات عمرنا، وعندما التحقت بإحدى مدارس الثانوية في أسكتلندا، حيث لا تسريب أسئلة ولا بيع للضمائر، كانت عقدتنا الأساسية هي اللغة الإنجليزية فيما كانت عقدة بعض طلاب المدارس الخاصة المواد العلمية، مثل الرياضيات والفيزياء والأحياء والكيمياء. كان أبناء المدارس الحكومية هناك - وأنا هنا أتحدث عن تجربة متحيزة - هم الذي يحصدون درجات الامتياز، أما أبناء المدارس الخاصة من الذين حصلوا على النسبة نفسها في الثانوية العامة وحصلوا على بعثة بسببها إلى خارج الدولة، فكان بعضهم لا ينجحون وإذا نجحوا فعلى الحافة، لذلك كان عرفنا السائد عندما نسأل أبناء المدارس الخاصة عن نسبهم في الثانوية العامة أن نضيف عليها سالب عشرة أو 20 لنعادله بمستوى المدارس الحكومية .. وقد نكون متطرفين في حكمنا هذا. ختاماً .. أفتخر أنني من ذلك الجيل الذي كان يُعطى كراسات الشيخ زايد الشهيرة في بداية كل سنة دراسية. للتواصل مع الكاتب o.hammadi@alroeya.com

أخبار ذات صلة