قبل الألعاب الأولمبية التي نُظمت في المكسيك عام ١٩٦٨، اعتاد أبطال القفز العالي الطيران فوق العارضة المنصوبة جاعلين صدورهم بمواجهتها. كانت تقنية مألوفة لدى الرياضيين في تلك الفترة، وكان الرقم القياسي المسجل حينها هو١.٧٢ متر، ولكن خلال موسم الألعاب الأولمبية تلك قام رياضي غير معروف اسمه ديك فوسبيري* بالقفز فوق العارضة بطريقة غريبة مختلفة عن تلك التي اعتاد عليها الرياضيون، وكانت المفاجأة الكبرى حين سجل ارتفاعاً قياسياً كسر به الرقم السابق بفارق كبير حيث بلغ الرقم الجديد ٢.٢٤متر. كل ما قام به ذلك الرياضي المغمور هو أنه بدلاً من أن يقوم بالقفزة المعتادة حيث ينحني بصدره تجاه العارضة، فإنه عكس قفزته مولياً إياها ظهره. ومنذ ذلك اليوم، تغيرت تقنية القفز فوق العارضة إلى الأبد. ماذا عنّا نحن؟ هل نمتلك جرأة «ديك» في القفز عالياً فوق أسوار المسلّمات؟ هل لدينا عزيمته وإصراره كي نقلب المعادلة ونكسر الأرقام الصعبة؟ هل نستطيع أن نسير عكس الاتجاه السائد؟ أن نخالف قوانين المنطق؟ أن نبرز كنقطة حمراء وسط لوحة ناصعة البياض؟ هل نملك مسحة الجنون التي تجعلنا مختلفين عن البقية؟ في الحملة الدعائية الشهيرة التي أطلقتها شركة أبل عام ١٩٩٧ تحت شعار «فكر بشكل مختلف» أو Think different والتي استمدت روحها من الأفكار الثورية لمديرها الراحل ستيف جوبز، اشتهرت دعاية تلفزيونية تُمجّد الشخصيات السياسية والرياضية والفنية وسواها ممن سلكوا طرقاً مختلفة في تحقيق النجاح. تلك الطرق التي لم تكن موجودة في الأساس، ولكنهم شقوها بأنفسهم وكانوا أول من سار فيها، ثم تبعهم الآخرون. تقول كلمات تلك الدعاية «هذه رسالة موجهة للمجانين، للمتمردين، لمُثيري المشاكل، لأولئك الذين يرون الأمور بشكل مختلف. وفي حين أن البعض قد ينظر إليهم كمجانين، فإننا نراهم عباقرة، لأن أولئك الذين يعتقدون أنهم يمتلكون من الجنون ما يكفي لتغيير العالم، هم الذين ينجحون في تغييره». شئنا أم أبينا، فإن أولئك العباقرة أو «المجانين» هم الذين يجروّن وراءهم قاطرة العالم، هم الذين يضعون قواعد اللعبة وهم الذين يغيرونها وفق أمزجتهم. هؤلاء لا يفكرون داخل الصندوق ولا خارجه، فهم لا يعترفون بوجود الصندوق أساساً. هم لا يؤمنون بالقوالب الجاهزة أو الأفكار المعلبة أو الوصفات المُعدة مسبقاً، فكل شيء أمامهم يبدو مبعثراً وقابلاً لإعادة الترتيب والتركيب بعدد لا متناه من المرات. وهؤلاء يحبون الفراغ لأنه المساحة التي تتمدد فيها أفكارهم بلا حدود، ويكرهون الجدران التي تعيق جموح خيالاتهم. «المُبدع يقفز أولاً، ثم ينظر إلى أين يصل» (ماسون كولي). في داخل كل منا صوت خفي يدعوه للقيام بقفزته الخاصة كما فعل ديك فوسبيري، صوت يعلو ويخفت من حين لآخر لكننا نظل مسكونين به. قلة منا تستجيب لذلك الصوت فتحاول القيام بقفزاتها الفارقة، بعضهم ينجح وبعضهم يفشل وبعضهم يكرر المحاولة حتى ينجح. أما الآخرون، فمجرد فكرة القفز عالياً عن سطح الأرض تثير فيهم فوبيا المرتفعات. هؤلاء يحبون أن يصفوا أنفسهم بالعقلانيين، ولكنهم في حقيقة الأمر مرعوبين من فكرة المجازفة. قد لا يعلم هؤلاء أن الفرص العظيمة لا تأتي من دون مجازفة. لذلك أقول لجميع المبدعين «ستجدون دائماً من يقاوم أفكاركم، وهذه أولى العلامات على أنكم في الطريق الصحيح للتغيير». (سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم) التفكير بشكل مختلف ليس حكراً على الأشخاص النابغين فقط، فحب التميز والاختلاف و«القفز العالي» سمة ترافق بعض المدن تماماً مثلما ترافق ثلة من البشر. وحينما تذكر المدن ويذكر التميز والارتفاعات الشاهقة، حتماً ستكون دبي إحدى المدن التي ستخطر على البال. دبي المدينة المحبة للاختلاف والتحدي والمجازفة. كم قاوم الآخرون طموحها وكم حاولوا التثبيط من همتها بعقلانيتهم المتخاذلة، لكنها لم تستمع لهم يوماً وقامت بقفزتها المختلفة. ومنذ ذلك اليوم وهي تحلق عالياً، فيما بقي العقلانيونعلى الأرض يرقبونها ويحاولون تقليد تلك القفزة. * القصة مقتبسة بتصرف من كتابWhatever you think think the opposite لبول آردن. d.fadhel@alroeya.com