تحتم تراتبية الحكمة الإلهية خلق هذا الوجود وتسخيره لخدمة الإنسان، المتطلع إلى أسمى درجات السمو والتقدم، عبر خريطة جيناته الوراثية وضمن جغرافيته. وذاك من منبثق تعبيريته عن قلقه الوجودي، نحو تكوين آيدولوجياته ومنابعه المعرفية، معتبراً المعرفة ضالته السرمدية في إطار بحثه النظري والتطبيقي في تشابكية لامتناهية التغير والتحول داخل محيط وجوده المعقد في شكله وتكوينه. ومن هذا المنطلق، احتاج الإنسان إلى استخدم عقله وذكائه، ليسيطر على قوانين وجوده، بيد أنه عجز عن إدراك بعض ما يحيط به من حقائق، إذ استخدم حواسه، عقله وحدسه، مدركاً ومستدركاً صيرورة الحقائق المحيطة بعالمه المعقد، المفضي إلى آحادية - ثنائية. الأولى تعود إلى الذات الإلهية في وجودها وتمثلها، والثانية في الإنسان وخلقه على أحسن تقويم بأسانيد التعدد والتفرد المستمد من خالقه. إن العطاء أحد هذه الأسانيد لأنه قيمة لا يقوم بها إلا المؤمنون الراسخون، ليترفعوا عن طوفان الدوران في محيط الأنا. فالمؤمن يعطي مرضاة للـه، وليقيم العدل وصولاً إلى أعلى درجاته، وهي الإحسان كما ورد في قوله تعالى «إن اللـه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون». النحل (آية 90)، أي يدعو إلى مكارم الأخلاق وينهي عن ملائمها، فمقابله البخل والشح من أخلص الصفات التي اتصف بها اليهود، فقد بلغ البخل والشح لديهم حتى درجة محاولتهم منع خير اللـه على خلقه، على اعتبار أن الخير لهم وحدهم كما جاء في محكم التنزيل «أم لهم نصيب من الملك فإذاً لايؤتون الناس نقيراً». النساء (آية 53)، والنقير هي نقطة سوداء في أعلى نواة التمرة، يقول محمد بن جرير الطبري 224 - 310 ه، طبرستان، مفسر، مؤرخ، وفقيه، وصاحب أكبر كتابين في التفسير والتاريخ، في كتاب تفسيره «جامع البيان في تفسير القرآن»، إن «اللـه وصف هذه الفرقة من أهل الكتاب بالبخل باليسير في الشيء الذي لا خطر له، ويدخل في كل ماشاكلها»، إن البخل والحسد يشتركان في أن صاحبيه يريدان أن يمنعا النعمة عن الغير، فالبخيل يمنع نعمة نفسه على غيره، والحاسد يريد أن يمنع نعمة اللـه عن عباده. والعطاء يدخل السعادة والفرحة في النفوس ولايقتصر على النفع المادي، بل يتعداه إلى المعنوي، فقد يكون علم أو معرفة أو خبرة. وقد قال صلى اللـه عليه وسلم «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: (اللهم اعطِ منفقاً خلفاً، ويقول الآخر اللهم اعطِ ممسكاً تلفاً). الصحيحان. ونجد في الديانة المسيحية العديد من الأسفار التي تتناول قيمة العطاء نحو ذلك، «طوبى للرحماء لأنهم يرحمون». (متى 5:7)، فإن جاع عدوك فأطعمه وأن عطش فأسقيه». (رو 20:12). أما الكونفوشية، وهي مجموعة من المعتقدات والمبادئ في الفلسفة الصينية، يعود تاريخها إلى كونفوشنوس إلى أكثر من 2500 عام تقريباً، انطلقت من الصين وانتشرت في كوريا، اليابان وفيتنام، ومحور مجملها يستند إلى الفضائل الخمسة «الإحسان، العدالة، الحكمة، الاستقامة، والولاء». وفق هذا، فإن العطاء بشموليته إذا ما ارتبط بمفاهيم الرغبة في مرضاة اللـه، العدالة، والحكمة، يمكن أن يحقق العدالة الاجتماعية متضمناً أعلى مستوياته، مبدأ العدالة في توزيع الثروات عن طريق توفير العمل للموظفين القادرين على العمل، وذلك للقضاء على البطالة. إن العمل يقضي على الكثير من المفاسد الاجتماعية، مع تحسين بيئة العمل، وضمان الراحة للعاملين بمعايرة ساعات الانضواء، والعطل الأسبوعية والسنوية، نشر العلم والانفتاح على العالم الخارجي، توفير العلاج والتأمين الصحي، الرعاية الاجتماعية للشيوخ، الأرامل، العاجزين، المعوقين، وضمان حق التقاعد، مع توافر الحريات الفكرية، لتكتمل حلقة العطاء والانتماء.