8 صباحاً أفراد الفريق الطبي يقولون إن التقرير المبدئي لفحص أنسجة الكبد يشير إلى وجود ورم سرطاني غير معلوم المصدر! توقعت أن تكون العينة لمريض جاوز القنطرة وبلغ من السن عتياً، لم أسأل عن معلومات إضافية وانتظرت رؤية المريض وكأنني أعرف الجواب مسبقاً. 9:30 صباحاً نحن نقوم الآن بالجولة الصباحية مع الاستشاري، استوقفتنا عجوز في الممر تسأل عن سبب تأخر النتيجة؟ لم أكن أعلم عن أي نتيجة تسأل؟ قال لها الدكتور «طولي بالك يا حجة لا نملك النتيجة النهائية بعد»، كانت العجوز حاذقة جداً فسألت «وماذا عن النتيجة المبدئية؟ أرجوك أعطني أي تشخيص وأرحني؟». قال الدكتور «تعالي يا حجة ندخل الغرفة ونناقش الحالة مع صاحبة الشأن». رفضت العجوز بكل حزم، فهي لا تريد أن نطلع المريضة على التشخيص، قلنا لها أعطنا دقائق وسنكون معك، يجب أن نتأكد من المختبر مرة أخرى .. إننا نعرف أنها تعرف، وهي تعرف أننا نعرف. 9:50 صباحاً قال الدكتور للعجوز «إننا غير متأكدين بعد من التشخيص لكن الأغلب أنه ورم!»، أمسكت مجاميع ثيابها وكأن أحداً يوشك أن يخنقها، وأخذت تلطم بكل ما أوتيت من قوة وجهها ورأسها، وأخذت تردد «يعني ستموت! لا يوجد علاج؟ إنها دكتورة يا دكتور»، انتبه جميع المارة لما حصل، حاولنا أخذها للداخل لكنها كانت ترفض. أطلت علينا من الحجرة بنت مشرقة الوجه وهي مرتدية ملاءة الصلاة، كانت تشير إلي مستفهمة عما يحصل؟ أشرت لها - وأنا لا أعرف أنها المريضة - بأن تدخل داخلاً وسندخل جميعنا الغرفة! ابتسمت ابتسامة مثقلة بالحسرة لا أنساها، قالت لي «أنا المريضة ؟ لماذا أمي تبكي؟». 10 صباحاً لم أخرج من هول صدمة عمر المريضة الذي لا يتجاوز الـ25 عاماً، حتى دخلت في صدمة أخرى وهي أن المريضة طبيبة تخرجت منذ شهور من الجامعة، والآن هي تبحث عن مستشفى تعليمي لتبدأ سنة الامتياز، كانت قد جاءت إلى المستشفى هذه المرة لا لتقدم طلب وظيفة بل بسبب شعورها بانتفاخ في الجهة اليمنى من صدرها، والذي تبين لاحقاً أن سببه خلايا سرطانية هبطت إلى الكبد من مصدر مجهول .. ربما يكون الصدر أو الرئة أو المبايض، لا أحد يعلم. حين أخبرناها عن نتيجة فحص الأنسجة بدت كأنها تعرف مصيرها سلفاً، فكون الورم متفشياً ومسافراً من مكان آخر هو بحد ذاته مؤشر سلبي لا يبشر بخير، ولله في خلقه شؤون، قلنا لها إن أفضل من يحدثك عن مرضك هو طبيب الأورام الذي سيزورك قريباً. يقولون إن أسرع الناس وفاة حين إصابتهم بالمرض هم الأطباء بسبب علمهم بفسيولوجية المرض، فهم يعلمون مما درسوه في علم الباثولوجيا مسير المرض ومصيره إلى أين، فإذا أصيب أحدهم بمرض عضال أجهز عليه علمه قبل أن يجهز عليه مرضه. كثيراً ما رأيت عجائز أخفى عنهم أبناؤهم إصابتهم بالسرطان يعيشون حياتهم كما كانوا يعيشونها دائماً، وبمجرد أن يعرف أحدهم بمرضه يبدأ بالانتكاسة النفسية التي تتحول إلى انتكاسة عضوية.. ثم يغادر. قبل شهور .. دخلت على مريضة في قسم الإقامة طويلة المدى في المستشفى كانت قد راحت في غيبوبة بسبب جلطة كبيرة أصابت الدماغ، ففقدت حواس الاتصال مع العالم الخارجي ودخلت في سبات عميق وها هي نائمة منذ سنين، كان عمرها حين رأيتها 53 سنة، أخبروني أنها كانت تعمل طبيبة وتناديها الممرضات بالدكتورة! كنت أتساءل هل وقفت هي موقفي هذا؟ وهل سأقف موقفها هذا يوماً ما؟ الأيام وحدها كفيلة بالإجابة. بعد شهور .. جاءنا مريض أصيب سابقاً بنوبة قلبية حادة، أكبر مشكلة عنده حالياً أنه مصاب بوسواس قهري يجعله يفكر بمضاعفات المرض باستمرار، صحيح أن هذه المضاعفات قد تصيبه مستقبلاً وقد تكون قاتلة! لكن السبب الرئيس لتأزم حالته الآن هو كونه طبيباً يعي ما يحدث فيه بتطرف! حالته مستقرة جداً من الناحية العضوية لكنها خطيرة جداً من الناحية النفسية! إن تدهورت حالته فسببها –غالباً- الوسواس وليس مشاكل القلب. اليوم .. أقتبس من المتنبي قوله: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم فأقول وليسمح لي المتنبي بهذا الاقتباس: ذو الطب يشقى في الشقاء بطبه وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم للتواصل مع الكاتب: o.hammadi@alroeya.com