شاهدت مؤخراً فيلم Identity Thief الذي يحكي قصة امرأة مدمنة لجميع المحرمات غير المشروعة، هوايتها السطو على بطاقات الفيزا المصرفية عن طريق الاحتيال على الزبون وأخذ معلوماته الشخصية، يقوم البطل- وهو أحد المنصوب عليهم- بالقبض على النصابة وإقناعها بكل الطرق الإنسانية بالاعتراف بجرائمها أمام مديره حتى لا يفصله من عمله، ووعدها بإطلاق سراحها بعد أداء الشهادة دون تسليمها للشرطة! بعد رحلة مليئة بالأحداث تقوم النصابة بما طلب منها وتسلم نفسها للشرطة طواعية تدخل السجن لتقضي محكوميتها ويقوم بطل القصة وزوجته وابنته بزيارتها باستمرار بعد أن ارتبطت معهم بعلاقة حميمة. خرجت من الفيلم وأنا أحمل مشاعر التعاطف مع النصابة برغم كل ما اقترفته من أخطاء جسيمة، أظن أنني أصبت بمتلازمة استوكهولم التي أخذتني في الزمن إلى عام 1973 وفي المكان إلى عاصمة السويد استوكهولم، حين سطا مجموعة من اللصوص على بنك واحتجزوا من كان فيه من موظفين كرهائن لمدة ستة أيام، وكان الرهائن يرفضون إنقاذهم من قبل الشرطة. بعد إطلاق سراحهم أبدى المختطَفون تعاطفاً مع الخاطفين وقاموا بالدفاع عنهم في المحاكم وأمام الرأي العام! وكان التفسير النفسي لما حصل هو أن «المجرمين» أبدوا بعض الحنان في معاملة «المنكوبين»، ما جعلهم يترجمون ذلك في عقولهم الباطنة إلى معروف كبير لا يمكن نسيانه، ونسوا أن ما هم فيه من إرهاب وانقطاع عن العالم الخارجي هو بسبب صنيعة هؤلاء! لقد عاش البعض هذه المتلازمة عندما دخل الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين قفص الاتهام وهو حامل للمصحف الشريف وتبدو عليه كل علامات الهيبة والثبات المكتسية بياض لحيته، فكان إذا تكلم أسمع، وإذا واجه أوجع، وإذا أطلق الشعارات أدمى مشاعر كل من شاهده سواء أكان مؤيداً له أو معارضاً، ثم حكم بالموت في محاكمة هزلية، وتم نقل مشهد إعدامه على جميع وسائل الإعلام، وأبهر العالم مرة أخرى بإقدامه بكامل عنفوانه على حبل المشنقة، وأسدل بذلك الستار على حياته بعدما سجل انتصاراً ساحقاً على سجانيه جميعاً. لقد غاب عنا في تلك اللحظات الحاسمة جميع ما سجلته لنا ذاكرة التاريخ من مجازر في عهد هذا الرجل، بدءاً من ذبحه رفاق حزبه في المؤتمر الشهير عام 1979، إلى الحروب الداخلية والخارجية التي لكل واحدة منها مبرراته المقبولة وغير المقبولة والتي أسفرت عن مقتل مئات الألوف من العراقيين وتشريد الملايين، وصولاً إلى خطيئته الكبرى بغزو الكويت لمحوها من خريطة العالم السياسية، ثم إطلاقه التهديدات القولية والصاروخية باتجاه دول الخليج بلا استثناء واجتياح الحدود الشمالية للسعودية. لقد كلفت هذه الحرب آلافاً من الأرواح ومليارات من الأموال وغيرت حال الأمة العربية المتفككة أصلاً إلى السيئ والأسوأ والأكثر سوءاً! سيكولوجياً ولا إرادياً سوف ننسى ذلك كله ونتذكر شموخ صدام في المحكمة. أنتقل إلى مشهد آخر عام 1989 وهو إعدام ديكتاتور رومانيا شاوشيسكو الذي أرهب بلده أكثر من 25 سنة، والذي أيضاً أصاب البعض بهذه المتلازمة وهو يرى شاوشيسكو وزوجته وقد أذلا وقيدا بالأغلال وسحبا كما تسحب النعاج إلى المقصلة بعدما حوكما محاكمة صورية أفضت في 90 دقيقة إلى إعدامهما رمياً بالرصاص، وهو الشيء نفسه الذي كان يفعله مع الآلاف ممن قتلهم في سِني حكمه! وتكررت مضاعفات المتلازمة مع ابن لادن حينما ألقي في قعر بحر العرب من دون مراسم دفن ولا قبر يزار بعدما قتل غيلة في شقته، أي بالطريقة نفسها التي قتل بها آلاف الأبرياء في أبراج التجارة العالمية، ولم يترك لهم قبوراً يزورها أحبابهم! نحن كبشر تغلبنا العواطف والمشاعر والأحاسيس التي تجعل كثيراً منا يتضامنون بحماس شديد مع بعض الشخصيات الجدلية إذا رأوا منهم موقفاً بطولياً أو إنسانياً ونتناسى أطنان السيئات التي خلفوها بعد وفاتهم! حتى الحجاج الثقفي وجد من يتعاطف معه - بعدما أذل صحابة رسول الله وسفك دم مليون مسلم - بحجة أنه نشر الإسلام ولم يثبت عليه أي فساد مالي أو أخلاقي! ربما نسوغ عدم ذكر مساوئ موتانا ولكن لن نسوغ نسيان مظالم من قتلوا من بني آدم على يد أحد من بني جلدتنا، فهدم الكعبة أهون عند الله من سفك دم روح بريئة بغير وجه حق. للتواصل مع الكاتب: o.hammadi@alroeya.com