بما أنني أدرس المجال العلمي وأستمر في تنمية مواهبي الفنية فقد بدا لي أن أكتب عما لمسته من واقع تجربتي، ومن الجميل أن نعود إلى بداية الإنسان لندخل مدخلاً سليماً. لقد كانت البشرية في بداياتها أو طفولتها تفسر الظواهر والأحداث على أساس خرافي أو أسطوري، فالخرافي تفسير جزئي قد يشوبه التناقض وهو رافض للعلم عادة، وأما الأسطورة فهي تفسير متكامل للعالم، ما يشبه وظيفة العلم في عصور متأخرة إلى يومنا هذا، ولا أحاول هنا وضع تعريف علمي لكليهما وإنما التفريق بما يخدم نصَنا هذا. وقد كانت الخرافات والأساطير من الموجهين الأوائل للحراك البشري، حيث لم تكن حينها مناهج التفكير العلمي متبعة أو حتى مكتشفة، أي يمكننا القول إن البشرية تربت في كنف الفنون والآداب، وبعد هذه الحقبة من النشاط الروحي كان لابد من التدرج والتغلب على المسلمات الخرافية والأسطورية لتقترن التجربة مع العقل ونتجه إلى أساليب أكثر منهجية وعلمية. وبقليل من التفكير نلاحظ أن البشرية ومع انتشار المناهج والتفكير العلمي تتجه إلى حرية أقل. وذلك لأن البشرية بدأت بالخرافات والأساطير كتفسير أدبي أو فني - غير منطقي غالباً- لتفسير الكون وكل ما يحدث فيه، بل ذلك تعدى إلى ربط انفعالات الإنسان بالطبيعة كنوع من الاستجابة لهذه الانفعالات. ما نلمسه هنا هو الحرية التامة في التعبير والتفسير في عصور الطفولة. وفي الملاحظة ذاتها نجد أيضاً أن العلم جاء ليضبط هذا الانحلال التفسيري بالتجربة والدليل ليكون أساساً تبنى عليه الحضارة والاكتشافات وليصنع الإنسان لنفسه دستوراً من القوانين التي يفهم من خلالها الكون، ومن هذا نلمس فنوناً وآداباً حرة فيما لم يتطرق إليه العلم ومضبوطة فيما يخص العلم. ولنعد إلى قرون مضت لنرى كيف كان البحث عن العلم؟ لقد كان العلم يستند إلى الرغبة الجامحة في الاكتشاف والتفسير وإيجاد قوانين عامة وذلك عبر الملاحظة والربط بين الظواهر، وكان من يريد طلب العلم يتجه إلى العالم ويتعلم منه ويساعده ويكتسب الخبرة على يديه. ما أردت قوله هو أن التعليم لم يكن محدداً بوقت أو عمر أو مكان أو زمان أو شهادة، حتى المدارس التي كانت في أوائل عهدنا بالتعليم لم تكن مقيدة بتواريخ كما الحال اليوم. فالعام الأكاديمي يمثل تقييداً رهيباً للعلم والتعليم، ويبعد المسافة بين الطالب والمعلم، فكلما قضى الطالب وقتاً أطول مع معلمه نهل منه أكثر. لكن هل يمكننا تخيل الدراسة من غير تأريخ؟ ربما علينا المضي فيما نحن فيه من تأريخ لكل شيء، أو التفكير في أنظمة أكثر انفتاحاً وهذه طبيعة التطور البشري، من تجربتي في ممارسة الفنون على تنوعها ودراسة الخط العربي وفي دراستي للهندسة وجدت أن دراستي الفنية غير مؤرخة ولا محددة بوقت معين فهي تعتمد على القدرة الشخصية وسعة الاستيعاب والرغبة، ويكون المعلم فيها الأساس الذي لا يمكن من دونه أن تتم عملية التعلم واكتساب المهارة وهو يكسب صاحبه الصبر والخلق وبعض التدين لمن يمارسون الفنون المرتبطة بالدين ولن نستطرد في ذكر أهمية الفن على النفس والحضارة، أما دراسة العلوم فهي محددة بوقت مما قد يسبب الضغط وإهمال بعض الأساسيات التزاماً بالتواريخ الأكاديمية، وتقيد بعض الإبداع والابتكار والحرية للسبب نفسه، وكثيراً ما تساوي بين الراغب والسائر على طريق معروف النتائج، كما أنها من الممكن أن تستمر من دون معلم لوجود الكتب التي تفصل كل شيء. الحرية، هي إمكانية الاختيار من غير ضغط خارجي، وهي التحرر من القيود المادية والمعنوية، وهي القرار الذاتي، تطبيق هذه التعاريف يجعلنا نصل وبلا شك إلى نتيجة كون الكثير - إن لم نكن جميعاً - في هذا الجيل غير أحرار، فالتأريخ ضغط خارجي معنوي، والتكاليف الدراسة قيود مادية، وعدم وجود التخصص المرغوب إجبار للقرار الذاتي، إننا في عهودنا هذه صرنا أكثر تقييداً، والبشرية التي بدأت بحرية الفنون اتجهت الآن إلى قيود العلم، وفي رأيي، التكامل بين الفن والعلم في الطالب وخاصة الجامعي هو جزء كبير من حل معادلة الحرية والانضباط، لا أدعي شمولية هذا الحديث وإنما هو باب للتفكير في عام أكاديمي ربما يكون سبباً في خسارة الكثير من الاختراعات والابتكارات وكبت بعض الحريات.