يبقى مفهوم البر بالآباء «أيقونة» خالدة في حياة الأجيال. حيث تسرد حوله الآيات والأحاديث، وتروى عنه قصص غاية في المثالية. لا شك في أن بر الوالدين قيمة غالية، وأمر أوجبه الله في محكم التنزيل، وشرع محكم في صحيح الحديث، وهذا أمر لا يقبل الجدل، بل إن النفوس السوية، لا تحيد عنه على مختلف الملل والنحل. هو خلق رفيع، وسمو في رد الجميل، ولا شيء أعظم من بر الوالدين. التربية مسؤولية جسيمة، ومهمة شاقة، ورحلة مليئة بالكفاح، مشحونة بالتحديات. لا أحد بوسعه أن يتخلى عن أبنائه، أو على الأقل ما من عاقل يفعل ذلك، فعاطفة الأبوة تحول دون ذلك.
من يُحْسِن يُحْسَن إليه، ومن يسئ ترد عليه الإساءة، قد تكون هذه قاعدة في المجازاة جائزة بين البشر؛ إلا أنها ليست مقبولة دائماً حين تكون بين الآباء وأبنائهم. فالمطلوب دائماً من الأبناء، هو البر والبر من دون قيد وشرط .. إنما السؤال: ما حيلة أولئك الأبناء الذين عقهم آباؤهم؟
هل وصمهم بالعاقين أمر مشروع؟ ما ذنبهم حين لا ينصفهم أحد؟ البر وفاء أكبر من رسم الحروف، وأوسع مساحة من أديم الأرض. أما العقوق بشقيه فهو لعنة أكبر من ظلام الكون. تروى قصص عقوق الآباء لأبنائهم بخجل، ويلوذ أصحابها بالأعذار والحجج، بينما تروى قصص عقوق الأبناء بزخم وبهرجة وتضخيم، يغرق في بحر المبالغات حيناً، ويسقط حيناً في مختبرات العقول ومراكز المنطق. هذه ليست دعوة للعقوق، لكنها دعوة للتمعن، والتدقيق، والتحري قبل إطلاق حكم العقوق على أحد. العقوق بشقيه؛ عقوق الآباء لأبنائهم، أو عقوق الأبناء لآبائهم، سلوك بشع تأنفه النفوس السوية، وتأباه العقول الصحيحة. والحكم على أحدٍ بالعقوق من دون استحقاق، حكم ظالم، يوجع النفس السوية، ويؤذي المشاعر الصادقة، ويشوه الصورة اجتماعياً، فمن النبل والعدالة، ألا يطلق حكم العقوق على أحدٍ ما لم يكن يستحقه بالدليل الظاهر.