ونحن على مائدة الطعام كانت أمي تقوم بتوزيع الوجبات علينا، وتبدأ بوالدي ثم الأقرب إليها إلى أن تنهي المهمة والكل يتابع حركاتها المعتادة، وكل مرة نسمع الكلام نفسه من والدي وهو ينبهها بأن ما تفعله خطأ وأن الواجب هو التوزيع بالعدل، فهي من تظلم نفسها فتشارك الابن الأصغر في طعامه بحجة أنه لم يتمكن من استكمال وجبته.
لكن هذه المرة نهرها والدي بشدة وغضب، وكنت قليلاً ما أراه على هذه الحالة، نهض بعيداً، فوجدتها تبتسم وتتبعه ثم تجلس بجواره وبصوتها الدافئ تقول «لقد أكلنا وشربنا ما يكفي وعلينا أن نطعم أبناءنا، فنحن لا نعرف مصيرهم في بيوت سينتقلون إليها»، وجدته يهدأ، ثم وضع يده على كتفها وقال «يا حبيبتي .. أخشى أن يحدث معك ما حدث مع الأم التي كانت تضحي بأكلها لأولادها وتأكل الفتات وما تبقى منهم، ولم تكتف بذلك بل كانت تجمع اللقيمات اليابسة وتضعها في الماء وتأكلها حباً في أبنائها، حتى تزوجوا وتركوها كجزع شجر خاوٍ، ولما مرضت وعلموا بأنها في المشفى هرعوا إليها براً وحباً فيها، فهم يحملون لها الجميل والعرفان وكل منهم جاء بالطعام والفاكهة، ولما فتحوا حافظة الوجبات كانت من بقايا طعام أولادهم، ظنوا أن أمهم كانت تستمتع بهذه النوعية من الغذاء ولذا أحضروها لها، ليس كرهاً وإنما حباً وتقديراً لجهودها، ظنوا أنها تعشق فتات الغذاء، أخشى عليك من هذه التجربة».
ابتسمت وفي عينيها بريق ثم التفتت إلينا، وكنا نستمع إلى حوار الوالد دون الاقتراب من الطعام، فأشارت إليه لافتة نظره إلى أنهم لم يأكلوا، ينتظروننا لأنهم بررة بنا، ووجهت له كلمة لم أنسها حين قالت «نحن سنموت كالشجر واقفين في شموخ فلا تحزن».
نزلت كلماتها على قلبه كالثلج ، نهض ليجلس بجوارنا ويستكمل غذاءه بعد أن أصر على أن يتقاسما أكلهما، هذا هو المعنى الحقيقي للحب، أذكر أنني لم أقل لوالدي يوماً إنني أحبه، لكن كان الحب مغلفاً في لهفة وصوله إلى البيت، في الاستماع لحواره والاهتمام بتلبية رغباته ولو كانت من وجهة نظري صعبة وخاطئة، هذا هو الحب الذي نشأ بين كل الأسر في تلك الحقبة الزمنية، وعلى ما يبدو أن التقدم والتطور أثرا بالسلب في العلاقات الاجتماعية فجعلا فيها الفرقة بدلاً من التواصل الاجتماعي، هذه الفترة كانت عنواناً لدفء المشاعر وتقبّل الآخر، كانت نسمات الهواء برائحة الطيبة، والمشي على الإسفلت بعد توقف المطر يفوح منه شعور بالجمال، ولفحة الهواء كانت تداعب وجوه البشر المبتسمة.