يؤسفني أن أبدأ بتقرير حقيقة أن الواقع لا يبشر بجيل مثقف وجاد وعميق، يستطيع أن يرسم مستقبلاً جديداً؛ هو بكل المقاييس جيل مختلف عن كل جيل مضى، فعند دخولك أي مكتبة عامة أو بين أروقة معارض الكتب ستلاحظ مدى الانحسار الكبير في الإقبال على حيازة المجلدات من أمهات الكتب، هذه الثروات القابعة على الرفوف، تسكنها العناكب لتسج خيوطها باسترخاء، وبدون أن يقضَّ مضجعها أحدٌ من الشباب المعاصر وينفض الغبار عنها. هل الشغف بالقراءة لا بد من أن يكون على مواد عميقه ورصينة، أم نكتفي بالاطلاع على ما قل وزنه وخف محتواه؟ القليل بل النادر من الشباب من يمتلك النفَس الطويل لقراءة أمهات الكتب والتنقيب في بطون المجلدات العميقة، والنهل من عمالقة الفكر الإسلامي والفلسفة والتاريخ والحضارات، لخلق قارئ حصيف، ولتصحيح المعايير الفكريَّة وضبط المفاهيم الأساسيَّة.
هل شبابنا سيعاودهم الشغف في المرحلة المقبلة لقراءة أمهات الكتب، ويراجعون هذا التراكم الإبداعي العريض، ولحمايتهم من الاستغلال والتغييب والجمود، ما يجعل النهضة تسير ببطء، وتُراجع مشاريع الإصلاح والتنوير. الثقافة العربيَّة تعاني من انحسار القراء الجادين، واللافت سيادة ثقافة الرواية والقصة القصيرة والخواطر وتنمية الموارد البشريَّة والطبخ وغيرها، في المقابل أصبح تفشي ظاهرة الثقافة المعلبة التي تسوِّقها وسائل التواصل الاجتماعي، وانسداد فجوات الوعي المثقل الكامن في بطون أمهات الكتب.
والمعلومة أصبحت على هيئة كبسولات وأقراص من الحبوب المسكنة تعالج الأعراض، الجهل، ولن تشفي من المرض، وهو تعطيل القدرة على التفكير للإنسان العربيّ، الوعي، أو الخيال والاستلهام والابتكار؛ لأن جمهور الوسائط الإلكترونيَّة ميّالٌ للتبادل المعرفي، وتناول الخبر والمعلومة عبر المواقع، وليس هدفه العمق ولا الدعوة إلى الإبحار في المعرفة الحرة.
ذلك جعل مفاهيم البعض للطبيعة الإنسانية السوية مختلة، سواء من حقوق الإنسان، ومبدأ التعايش وحرية الاعتقاد والتسامح والمساواة، جملة من القيم العليا غير منسجمة مع الذوق الإنساني السليم، لهذا كان تدين البعض سجين ثقافة السطحيَّة وفكر التحريم ومنهج الشركيات. إن وسائل التواصل أتاحت لأشباه المفكرين، وأنصاف علماء الدين أن يتحدثوا وكأنهم المخلِّصون والمـَخلِصون. وهناك الثقافة الرخوة التي يستثمرها المتطرفون.
كي تظهر أمارة العافية التي ننشدها، لا بدَّ من استخراج الكنوز من أمهات الكتب وهي الحصن الحصين للشباب الذي يؤمن بالتعايش والتسامح، وهي حماية له ضد الإفلاس الروحي والفكري، في منطقة الوطن العربي التي تعتبر مهد الحضارات الإنسانيَّة العريقة، والتي يقوم أساسها على المعرفة، وتعتمد لغتها الحيَّة وآدابها على التراكم الإبداعي والروحي والفكري. l.hashimi@alroeya.com