مع اشتعال المنافسة بين منصات البث عبر الإنترنت، يتأكد الجميع يوماً بعد الآخر، أن معيار النجاح في هذا المضمار هو القدرة على إنتاج المحتوى الأصلي، سواء من خلال الاتفاق مع شركات إنتاج خارجية، أو حتي من خلال الاستحواذ على استوديوهات الإنتاج بأكملها، ورغم الخسائر التي حققتها العديد من شركات البث الكبرى العام الماضي، إلا أن الجميع يواصل الحركة للأمام، وليس أدل على هذا الأمر من أن أكبر 8 مجموعات إعلامية في الولايات المتحدة تعتزم ضخ ما يزيد على 100 مليار دولار هذا العام على إنتاج المحتوى الجديد من الأفلام والبرامج والمسلسلات التليفزيونية.
النفقات الاستثمارية
وتأتي هذه النفقات الاستثمارية الضخمة وسط مخاوف من صعوبة جذب المزيد من المشتركين، بعد النمو غير المتوقع في قاعدة المستخدمين خلال عامي 2020 و2021 مدفوعاً بانتشار وباء كورونا وبقاء الملايين في المنازل، ولكن البديل سيكون ببساطة ترك الساحة للمنافسين الآخرين، ويقول مايكل ناثانسون المحلل الإعلامي: «ليس هناك عودة للوراء، الطريقة الوحيدة للبقاء في حلبة المنافسة هي إنفاق المزيد والمزيد من الأموال على إنتاج المحتوى المتميز».
واعتماداً على تقارير الإفصاح بالشركات وتقارير المحللين، قامت صحيفة «فايننشال تايمز» المتخصصة في الاقتصاد بحساب النفقات المخططة لإنتاج المحتوى في العام المقبل وتوصلت إلى رقم «مذهل» كما قال أحد المحللين، والمثير أن غالبية هذه الشركات بما في ذلك ديزني وكومكاست وورانر وأمازون قد حققت بالفعل خسائر في قطاعات البث الخاصة بهم، ومع إضافة النفقات المتعلقة بحقوق البث الرياضية فقد توصلت الجريدة إلى الرقم الإجمالي للإنفاق خلال 2022 سوف يصل إلى نحو 140 مليار دولار.
إنفاق الشركات
ووفقاً لتقديرات مؤسسة «مورجان ستانلي» فمن المتوقع أن ينمو استثمار شركة ديزني في إنتاج المحتوى بنسبة تراوح من 35 إلى 40% خلال عام 2022، ومن المتوقع أن يصل إنفاق الشركة على جميع الأفلام والبرامج التليفزيونية الجديدة إلى 23 مليار دولار، ويصل إلى 33 مليار دولار عند إضافة حقوق البث الرياضية، وهو ما يعني زيادة بنسبة 32% من إجمالي إنفاقها على المحتوى خلال 2021.
وتضم خطط المحتوى الجديد، إعادة إنتاج القصة الخالدة «بينوكيو» من بطولة توم هانكس، وجزءاً جديداً من فيلم «السيارات»، بالإضافة إلى مسلسل «أوبي وان كانوبي» من بطولة إيوان ماكجروجر، وهو أحد شخصيات سلسلة «حرب النجوم» الشهيرة. بينما تنوي الشركات المنافسة مثل نتفليكس وفوكس وأبل هي الأخرى إنفاق مليارات الدولارات علي المحتوي الجديد، ويري جون سلوس، رئيس شركة «سينيتك ميديا» أن العنوان الحقيقي في عام 2022 هو حجم الأموال التي تم تخصيصها لمنصات المحتوي، وهو مقدار مذهل.
بينما من المتوقع أن تنفق «نتفليكس» أكثر من 17 مليار دولار على المحتوى خلال العام المقبل، بزيادة 25% عن عام 2021، و57% من إجمالي الإنفاق عام 2020. ورغم ذلك تتوقع الشركة أن تحقق نقطة التعادل في الإيرادات مقابل الإنفاق هذا العام. ويقول تونا أموبي، خبير تحليل الأسهم في مجال الإعلام والترفيه: «ستكون هذه المرحلة علامة فارقة لشركة نتفليكس، وذلك إن تمكنت من تحقيق هذه الأهداف».
تباطؤ نمو المشتركين
يأتي هذا علي الرغم من أنه خلال الشهور القليلة الماضية، تباطأ نمو المشتركين في «نتفليكس» وغيرها من منصات البث، وأرجع المسؤولون التنفيذيون في الشركة السبب الرئيسي إلى تأخر إطلاق الأعمال الجديدة من المحتوى وذلك بسبب تأخير الإنتاج المرتبط بفيروس كورونا، وهي المشكلة التي أصابت الصناعة بأكملها. وكانت نتفليكس قد حققت رقماً قياسياً في عدد المشتركين الجدد والذي بلغ 37 مليوناً عام 2020، وذلك بسبب انتشار فيروس كورونا، الذي دفع الناس للبقاء في منازلهم والجلوس أمام الشاشات، ولكن هذا الاتجاه تباطأ في الربع الأول من عام 2021 عندما سجلت شركة البث العملاقة 4 ملايين مشترك جديد فقط، وهو الرقم الذي جاء أقل من توقعاتها بمليوني مشترك.
أسعار أسهم الشركات
إلا أن الوضع في شركة «ديزني بلاس» اختلف تماما، حيث أعلنت الشركة في تقرير الأرباح الأسبوع الماضي إضافة عدد من المشتركين يفوق توقعاتها، حيث دخل أكثر من 11.8 مليون مشترك جديد في الربع المنتهي في الأول من يناير الماضي، وذلك في مقابل توقعات بـ8.5 مليون مشترك جديد، ليصل العدد الإجمالي إلى 129.8 مليون مشترك، وأدت هذه الأرقام إلى ارتفاع سعر سهم الشركة في البورصة.
يرى الخبراء أن الجميع في هذه الصناعة، بما في ذلك الشركات التي تتربع على القمة يجب أن تستمر في الإنفاق بكثافة على إنتاج المحتوي الجديد، للاستمرار في المنافسة حتى لو حدثت خسائر وتباطؤ في النمو، وهي المعادلة التي جعلت الكثير من المستثمرين يتساءلون عما إذا كانت صناعة بث الفيديو عملاً جيداً من الأساس.
انخفاض الإيرادات
انخفاض الإيرادات كان الملمح الواضح لدى وسائل الإعلام التقليدية التي قامت بالانتقال من البث التليفزيوني العادي إلى البث عبر الإنترنت، وهو الأمر الذي أدى إلى تقليل هامش الربح الذي كانت تحققه بشكل ملحوظ، وذلك وفق إشارة بنك مورجان ستانلي. وقال المحللون في البنك إن السوق قلقة بشكل متزايد من عدم وجود «الكنز» الموعود في نهاية الطريق.
وأدت المنافسة علي إنتاج المزيد من المحتوى إلى ارتفاع التكاليف في جميع المجالات وأصبح العثور علي مواقع للتصوير في المناطق التقليدية أكثر صعوبة، كما بدأت المواقع التاريخية المستخدمة في تصوير الأعمال تصبح أكثر جذبا للمستثمرين مع زيادة الطلب عليها. وهو الأمر الذي أكدت عليه كريستين مكارثي، المديرة المالية لشركة ديزني، التي قالت للمستثمرين مؤخراً: «بسبب المنافسة الحادة علي المواهب، ارتفعت تكاليف المحتوى في كل ما يتعلق بعناصر الإنتاج».
المحتوي العالمي
هذه التكاليف المتزايدة، دفعت شركات البث إلى البحث الدائم عن المحتوى العالمي لتقليص الإنفاق وليس بهدف التنوع أو عرض التجارب المختلفة، وعلى سبيل المثال فإن مسلسل «لعبة الحبار» الكوري حقق أكبر نجاح على شبكة «نتفليكس» حتى تاريخه علي الرغم من أن نفقات إنتاجه أقل بكثير من نفقات الأعمال الأمريكية، كما أعلنت ديزني عن خططها لإنتاج نحو 27 عملاً تلفزيونيا من الأفلام والمسلسلات في آسيا لتوفير الملايين التي تدفع للمثلين وكذلك الحصول علي المزيد من الإعفاءات الضريبية والحوافز من الدول التي تتطلع لجذب شركات الإنتاج الأجنبية.
في نفس الإطار، لا تبتعد المنطقة العربية كثيراً عن حالة الصعود المستمرة لخدمات البث عند الطلب، حيث توقعت دراسة جديدة أجرتها «ديجيتال تي في للأبحاث» أن تشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا زخماً كبيراً في الطلب على هذه الخدمات على مدى السنوات الخمس المقبلة، وكشفت هذه الدراسة عن توقعات بإضافة عشرات الملايين من المشتركين في الخدمات العالمية مثل نتفليكس وديزني، مما يجعلها سوقاً ناشئة مهمة في هذا القطاع.
خدمات إقليمية
ويشير التقرير الصادر هذا الشهر، إلى أنه من المتوقع أن تقفز المنطقة من نحو 14 مليون مشترك في نهاية العام الماضي لتصل إلى ما يزيد عن 35 مليون مشترك بحلول عام 2026، كما توقعت أن تكون تركيا علي رأس هذه الدول بنحو 14 مليون مشترك. وتوقع سيمون موراي المحلل الرئيسي في التقرير أن تحظي شركتي ديزني ونتفليكس بحصة الأسد من هذه الاشتراكات بنسبة تصل إلى نصف أعداد المشتركين الإجمالية لخدمات البث.
وبعيداً عن اللاعبين الرئيسيين تدخل في الصورة أيضاً خدمات إقليمية تحصد نسبة جيدة من المشتركين مثل «شاهد» و«ستارز بلاي» و«وتش إت»، وربما تكون «شاهد» التي انطلقت عام 2008 صاحبة أفضل قصة نجاح في هذا المجال، حيث اجتذبت نحو 1.4 مليون مشترك جديد بنهاية رمضان 2021 بزيادة وصلت إلى 43% على أساس سنوي مقارنة بنفس الفترة من العام 2020، ويعود السبب الرئيسي في هذه الزيادة إلى إطلاق المنصة للمشاهدين في أمريكا الشمالية في وقت سابق من ذلك العام.
المحتوى الأصلي
النجاح الذي تحققه منصة شاهد، جعلها تستثمر بكثافة في إنتاج المحتوى الأصلي، حيث أنتجت عشرات الأعمال خلال السنوات الثلاثة الماضية لتلبية الطلب المتزايد من المستهلكين في المنطقة والذين يمضون الكثير من الوقت في مشاهدة خدمات البث أكثر من ذي قبل، بل شهدت المنصة في يوليو عام 2020 عرض فيلم «صاحب المقام» والذي تم إطلاقه للمرة على منصة بث بدلاً من العرض في دور السينما، كما طرح مؤخراً مسلسل «بيمبو» للمخرج عمرو سلامة علي المنصة أيضاً.
ونظراً لأهمية هذا السوق وتوقعاته المستقبلية الإيجابية، تكثف شركات البث العملاقة جهودها في الفترة الأخيرة للوصول إلى قطاع واسع من جمهور الشرق الأوسط، حيث تتضمن استراتيجية نتفليكس الأخيرة إطلاق العشرات من الأفلام والمسلسلات التاريخية والأصلية باللغة العربية من جميع أنحاء المنطقة، حيث تشير الأخبار إلى وجود عملين مصريين قيد الإنتاج لصالح «نتفليكس»، بينما تم عرض فيلم «أصحاب ولا أعز» وهو أول إنتاج عربي للمنصة، بالإضافة إلى مسلسل «ما وراء الطبيعة» المأخوذ عن عمل للمؤلف المصري أحمد خالد توفيق.