نجح فريق بحثي يقوده الدكتور أندريس فينزي عالم الفيروسات في جامعة مونتريال الكندية ليس في اكتشاف العناصر الهيكلية الرئيسية في الفيروس المُسبب للإيدز فحسب، بل أيضاً في تصميم علاج يُمكن أن يقضي على الفيروس بشكل كامل في دماء المرضى.
يُشبه فيروس HIV المُسبب للإيدز علبة محكمة الغلق لا يُمكن كسرها. لذا، لا تستطيع الأجسام المناعية الموجودة في دماء المرضى مقاومة ذلك الفيروس. تقوم معظم الأدوية الحالية على تقليل أعداد الفيروسات في الدم، إلا أن مشكلتها الأساسية تكمن في ضرورة تناولها باستمرار وبكميات كبيرة. فبمجرد التوقف عن تناولها يعود الفيروس للنشاط مُجدداً. كما أن لتلك الأدوية أعراضاً جانبية كبيرة تشمل الشعور الدائم بالصداع والغثيان وتكسير العظام وقلة النشاط.
قال فينزي في تصريحات خاصة لـ«الرؤية»: «تطور الفيروس لتجنب التعرف على الأجسام المضادة التي يولدها المضيف. يحقق فيروس نقص المناعة المكتسب ذلك الأمر عن طريق إخفاء الأجزاء الضعيفة المعروفة باسم «مفتاح الدخول» أو مغلف البروتينات السكرية عن جهاز المناعة، عندما تصاب الخلية بالعدوى، فإنها تحافظ على البروتينات السكرية في غلافها في شكل مغلق تماماً لتجنب التعرف المناعي».
للتغلب على ذلك الأمر، حدد الباحثون طريقة لاستخدام «فتاحة علب» لإجبار الفيروس على فتح غلافه الخارجي وكشف أجزائه الضعيفة، مما يسمح لخلايا الجهاز المناعي بقتل الخلايا المصابة.
يفتح ذلك الاختراق طريقاً جديداً في مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية، ويمكن أن يؤدي في النهاية إلى تصميم لقاح لمنع انتقال الفيروس. يمكن أن يكون هذا النهج المبتكر أيضاً جزءاً من الحل للقضاء على الفيروس يوماً ما. ولا يزال الإيدز من أهم التحديات في مجال الصحة العمومية في العالم، وخصوصاً في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. فعلى الرغم من القفزات العلمية الضخمة الأخيرة بخصوص علاج مرض الإيدز، فإن ملايين الأشخاص مصابون بفيروس نقص المناعة البشرية في جميع أنحاء العالم. في نهاية عام 2012، كان ما يقرب من 10 ملايين شخص يتلقون معالجة مضادة للفيروسات القهقرية في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط. لكن أكثر من 16 مليوناً من الأشخاص الآخرين الذين يستحقون هذه المعالجة بموجب الدلائل الإرشادية الجديدة لعام 2013 لم يتمكنوا من الحصول على الأدوية المضادة لتلك الفيروسات. إلا أن الصورة ليست قاتمة تماماً، فالأشخاص المصابون بفيروس HIV-1 لديهم أجسام مضادة مُولدة بشكل طبيعي ولديها القدرة على قتل الخلايا المصابة؛ لكن علينا فقط أن نعطيهم دفعة بسيطة عن طريق إضافة جزيء صغير يعمل بمثابة «فتاحة علب» تفضح المناطق التي تتعرف عليها الأجسام المضادة.
وفي هذا الصدد، نجح الباحثون في مركز أبحاث مستشفى جامعة مونتريال، وجامعة ييل في تقليل حجم مخزون فيروس نقص المناعة البشرية في الفئران المتوافقة مع البشر باستخدام «فتاحة العلب الجزيئية» ومجموعة من الأجسام المضادة التي تم العثور عليها في دم المصابين.
ونتيجةً للتطورات الحديثة المتعلقة بفرص الحصول على المعالجة المضادة للفيروسات القهقرية، فإن الأشخاص المصابين بفيروس العوز المناعي البشري يعيشون الآن حياة أطول وأوفر صحة. وإضافة إلى ذلك، فقد تم إثبات أن المعالجة بمضادات الفيروسات القهقرية تمنع سراية فيروس مرض النقص المناعي البشري.
في الدراسة الجديدة المنشورة في Cell Host & Microbe، أظهر فريق العلماء، بالتعاون مع زملائهم في جامعة بنسلفانيا وكلية الطب بجامعة هارفرد، أنهم تمكنوا أيضاً من تأخير عودة الفيروس بشكل كبير بعد إيقاف العلاج المضاد للفيروسات القهقرية في النموذج الحيواني.
وقام الباحثون في تلك الدراسة بعمل «كوكتيل» مكون من اثنين من الأجسام المضادة الموجودة بشكل طبيعي في بلازما الأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية وجزيء صغير يمكنه فتح علبة الفيروس.
لإصابة خلايا الجهاز المناعي البشري، يرتبط فيروس نقص المناعة البشرية بمستقبلات محددة على سطح هذه الخلايا، بما في ذلك واحد يسمى CD4. يؤدي هذا الارتباط إلى إحداث تغييرات في شكل غلاف الفيروس، ومفتاحه للدخول ويسمح له بإصابة الخلايا المضيفة.
في عام 2019، في دراسة سابقة أظهر فريق فينزي أن الجزيئات الصغيرة التي تشبه CD4، والتي صممتها وصنعتها مجموعة بحثية في جامعة بنسلفانيا، كانت بمثابة «فتاحات علب» وكانت قادرة على إجبار الفيروس على فتح وكشف الأجزاء المعرضة للخطر من غلافه.
وفي نموذج الفئران المتوافق مع البشر الذي طوره الباحثون في جامعة ييل والمُستخدم لدراسة فيروس نقص المناعة البشرية، كشف الباحثون أن «الكوكتيل» لا يحد فقط من تكاثر الفيروس، بل يقلل أيضاً من مخزون فيروس نقص المناعة البشرية عن طريق تدمير الخلايا المصابة.
طوال فترة العلاج بمضادات الفيروسات القهقرية، يختبئ فيروس نقص المناعة البشرية بصمت في الخزانات الموجودة في الخلايا الليمفاوية التائية المعروفة باسم CD4 + T وهي خلايا الدم البيضاء التي تساعد على تنشيط جهاز المناعة ضد العدوى ومحاربة الميكروبات.
ووجود هذه «الملاذات الفيروسية» الخفية يفسر سبب عدم شفاء العلاج المضاد للفيروسات القهقرية في الأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية ولماذا يجب أن يستمروا في العلاج مدى الحياة لمنع الفيروس من «الارتداد».
وأوقف الباحثون العلاج بمضادات الفيروسات القهقرية قبل إعطاء الكوكتيل الجديد وحدث ارتداد الفيروس بعد 46 يوماً على عكس الفئران التي لم تحصل على الكوكتيل حيث حدث الارتداد في غضون 10 أيام.
وقال فينزي في تصريحاته لـ«الرؤية» إن الكوكتيل الجديد «قد يحل مشكلة الإيدز العويصة في المستقبل» دون الحاجة لتناول أدوية مرهقة يومية لها آثار جانبية تُقلل من جودة حياة مريض الإيدز.