عندما يتكلم يصمت الجميع، وحينما يصمت ينتظر الجميع كلامه، بصماته على خرائط العالم من أقصى الشرق في فيتنام والصين مروراً بالكرملين والساحة الحمراء والشرق الأوسط، وصولاً إلى أمريكا الجنوبية وشيلي، رغم أنه رائد المدرسة الواقعية في السياسة والعلاقات الدولية، فإنه من أهم المؤمنين بحقائق التاريخ و ديكتاتورية الجغرافيا.. الحفاظ على الأمن والاستقرار الدولي مشروعه الأول والأخير، في 27 مايو المقبل يكمل قرناً كاملاً في قهر المستحيل، هو آخر شخص على قيد الحياة من حكومة الرئيس ريتشارد نيكسون، ورغم أنه ولد قبل انتشار الراديو فإن حضوره صاخب وطاغٍ في زمن تويتر وفيسبوك.
يوصف بأنه ثعلب السياسة الأمريكية، نجا من محارق النازية عام 1938 عندما هرب مع أسرته إلى لندن، ومنها إلى نيويورك، لكنه عاد إلى ألمانيا ضمن الجيش الأمريكي ليقاتل من جديد ضد النازية، أيقن وهو في ساحة الحرب أن الدبلوماسية لا تقل قوة وتأثيراً عن المدافع والطائرات، تعلم أن التواصل ودبلوماسية «الخطوط الساخنة» قادرة على حل العقد السياسية، احترف السير في الجبهات الأمامية وسط ألسنة النار، فعرف معنى وقيمة السلام.
هو هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي من 22 سبتمبر 1973 حتى 20 يناير 1977 في عهد الرئيسَين (ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد)، وقبل ذلك في عام 1969 كان مستشار الأمن القومي الأشهر في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، فالطفل الذي هرب من الاضطهاد السياسي وهو ابن الـ15 عاماً استطاع أن يفرض حلوله السياسية وأفكاره غير التقليدية في غالبية الصراعات الدولية خلال أكثر من 75 عاماً، وعندما بات الطريق مسدوداً والقتلى الأمريكيون في فيتنام بالآلاف، وصورة الدولة العظمى على المحك، عندها أخرج كيسنجر أوراقه ليرسم طريقاً قاد في النهاية، ليس فقط لتأمين الخروج الأمريكي من فيتنام، بل لتصبح فيتنام في النهاية من أكثر حلفاء واشنطن على الضفة الأخرى من المحيط الهادئ، ولهذا استحق كيسنجر الحصول على جائزة نوبل للسلام التي كانت الأكثر جدلاً في تاريخ الجائزة، عندما استقال اثنان من مجلس إدارة الجائزة اعتراضاً على منحها للرجل الذي تفاوض منذ 1969 حتى 1973 من أجل إنهاء الحرب.
واقعية فيتنام ومثالية هارفارد
كيسنجر يشغل العالم هذه الأيام، ليس لأنه قهر جميع الأمراض النفسية والعضوية، وتخطى المخاطر الكافة والفيروسات والبكتريا السياسية وغير السياسية، وعاش قرناً كاملاً من الزمان، بل لأنه أخرج من حقيبته الدبلوماسية ورقة لحل الأزمة الأوكرانية أثناء مداخلته في منتدى دافوس الأخير، الورقة أزعجت وأغضبت الأوكرانيين، لكن حتى الذين جادلوا كيسنجر اعترفوا بأن رؤيته تقوم على الواقعية التي اعتنقها بعد ترك المثالية التي درسها في فصول هارفارد، و التي لازمته حتى زيارته الأولى لفيتنام عام 1965، الغضب الأوكراني جاء لأن كيسنجر اقترح أن يعود الطرفان، الروسي والأوكراني، إلى خط 24 فبراير الماضي، أي حدود ما قبل اندلاع الحرب، وهو ما يعني خسارة بعض الأراضي الأوكرانية لصالح روسيا، سواء في إقليم دونباس أو شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014، لكن من يعرف كيسنجر يعلم أنه واقع في غرام التاريخ الذي يرى فيه أن روسيا دولة أوروبية بامتياز منذ 400 عام، وأن روسيا التي تتسع لـ17 مليون كلم كانت طوال القرون الأربعة الماضية عنصر استقرار وتوازن في أوروبا، وأن عزل روسيا والانسياق وراء اللحظة التي أسماها بـ«العاطفية» لن يحل الصراع، بل يمكن أن يؤدي إلى تمدده وتوسعه مكانياً وزمانياً. وسبق لكيسنجر منذ نحو 9 سنوات أن طرح رؤية لم تأخذ بها بلاده، وهي أن تكون أوكرانيا محايدة وتمثل منطقة عازلة بين الكتل الدولية المتصارعة في أوروبا.
شراكة في اللغة الألمانية
يشترك كيسنجر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 4 مقاربات، الأولى: هي إتقان اللغة الألمانية، فكيسنجر مولود في ألمانيا وعاش فيها من عام 1923 حتى 1938، بينما الرئيس الروسي كان يعمل في الـ«كي جي بي» في سفارة بلاده في ألمانيا الشرقية، وتعرف كيسنجر منذ وقت مبكر على بوتين، وصار الرجلان أصدقاء عندما زار كيسنجر مدينة سان بطرسبرج، وتم اختيار بوتين لمرافقته، لأن بوتين كان يشغل وقتها منصب نائب أول عمدة سان بطرسبورغ، ومن وقتها صار الاثنان أصدقاء، السبب الثاني لصداقة بوتين لكيسنجر تحدث عنها بوتين في سيرته الذاتية، فعندما أصر كيسنجر أن يعرف خلفية بوتين في لقائهما الأول، أخبره بوتين بخلفيته في «الكي جي بي»، ولهذا يعرف الرجلان طريقة التعامل «بالحبر السري»، فكيسنجر أيضاً عمل لسنوات طويلة في المخابرات الأمريكية.
لكن السبب الثالث والأهم في استمرار الصداقة حتى اليوم بين الرجلين أن كليهما يشترك في النظرة إلى أن انهيار الاتحاد السوفيتي كان كارثة على النظام الدولي، وبالإضافة إلى إيمان كيسنجر بالتاريخ والواقعية السياسية، أدرك عميد الدبلوماسية العالمية أن الحفاظ على توازن النظام العالمي هو السبيل الوحيد للاستقرار الدولي، وهو ما جاء في عنوان كتابه الأخير «النظام الدولي الجديد»، ولهذا يوصف كيسنجر بأنه حارس للنظام العالمي الجديد، هذا العمق في فهم كيسنجر لروسيا ولزعيمها، حيث التقى كيسنجر بوتين 25 مرة خلال الـ15 عاماً الأخيرة، كل هذا ما يدفعه للدعوة بضرورة وقف الحرب خلال الشهرين المقبلين، وتأكيد أن استمرار الحرب ليس في صالح أحد، فالجميع في الحروب خاسرون.
دبلوماسية البينغ بونغ
يشهد التاريخ أن كيسنجر هو الذي أذاب الجليد بين التنين الصيني والولايات المتحدة، فخيار واشنطن كان قبل كيسنجر هو المواجهة والعداء مع الصين، ورفضت الولايات المتحدة الاعتراف بالحكومات الصينية التي جاءت بعد ثورة 1949، ولم تعترف بها إلا في عام 1979 بعد 4 عقود كاملة من قيام الثورة الصينية، ويحسب لكيسنجر أنه مؤسس لمدرسة «احتواء الصين» وليس «الحرب مع الصين»، لهذا أقنع الرئيس ريتشارد نيسكون بضرورة التقارب مع الصين عبر السماح للاعبين من الولايات المتحدة بلقاء زملائهم الصينيين خلال بطولة العالم لكرة الطاولة عام 1971 في ناجويا باليابان، ومهد اللقاء بين اللاعب جلين كوان من الولايات المتحدة، وزميله من الصين وزوهانج زيدونج لبدء العلاقات بين البلدين الكبيرين، ومهدت هذه اللقاءات لنجاح كيسنجر التاريخي بترتيب زيارة هي الأولى لرئيس أمريكي للصين رغم عدم وجود علاقات دبلوماسية وقت قيام الرئيس نيكسون بزيارة الصين عام 1972، وكانت هذه هي البداية الحقيقة للعلاقات الصينية - الأمريكية، حيث وصلت التجارة البينية بينهما في عام 2021 لنحو 750 مليار دولار بحسب وكالة رويترز.
عنوان للمهارة التفاوضية
لقد أصبح كيسنجر عنواناً للمهارة التفاوضية، وطرح الحلول الواقعية التي يبحث عنها، ليس فقط طلاب المعاهد الدبلوماسية، بل لساكني البيت الأبيض، وحتى في الكرملين وساحته الحمراء ينظرون بإعجاب لأطروحات الرجل، حتى لو لم يقبلوا بها، نفس الأمر بالنسبة للصين التي تراه أفضل من حافظ على المصالح الأمريكية بوسائل تقوم على مد الجسور وليس ببنائها، مهارة كيسنجر تنطلق من استحالة الدخول في حرب مع دولتين من أعضاء النادي النووي، وأن الحروب التي تقع بالخطأ، تحتاج موارد وتضحيات كثيرة للخروج منها، ورغم إدراك كيسنجر أن بلاده تريد بقاء نظام عالم القطب الواحد، بينما الصين وروسيا يعملان على نظام متعدد الأقطاب، فإنه يرى أن التعايش بين الجميع ممكن، بشرط الالتزام بالتواصل والحوار والنقاش والدبلوماسية، لأنه بخلاف ذلك تسود القناعات الخاطئة التي هي بداية الأخطاء والخطايا.