أسهل الطرق للتنصل من الأخطاء والكوارث هو إلقاء المسؤولية على الآخرين، وبدلاً من التعمق في أسباب وجوهر القضايا والأزمات والعمل على حلها وتجاوز تداعياتها، يبحث البعض عن شماعة سياسية واقتصادية لتحميل أطراف أخرى ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بالأزمة التي تسببوا هم قبل غيرهم في وقوعها.
قانون «نوبيك»
هذا المشهد نراه بوضوح في مشروع القرار الذي وافقت عليه اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ الأمريكي، في 5 مايو الجاري الذي يطلق عليه «لا لتكتلات إنتاج وتصدير النفط»، والمعروف اختصاراً باسم «نوبيك».
ويسمح القانون، الذي دعمه 17 عضواً من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وعارضه 4 أعضاء فقط من اللجنة القضائية، برفع دعاوى قضائية أمريكية على الدول المنتجة للبترول في منظمة «أوبك» وأيضاً على الدول التي تنسق معها من خارج أوبك، والتي يطلق عليهم جميعاً «أوبك بلس».
محاكمة شركات النفط الوطنية
ويعطي القانون للمحاكم الأمريكية، الحق في مقاضاة الشركات الوطنية التابعة لكل تلك الدول، بحجة احتكار إنتاج النفط، وعدم زيادة الإنتاج، وهو ما تسبب في رفع أسعار الطاقة على المواطن الأمريكي، كما يدعي الموقعون على مشروع هذا القرار. لذلك فإن إقرار قانون «نوبيك» سيسمح للمدعي العام الأمريكي، بمحاكمة شركات دول أوبك و«أوبك بلس» أمام المحاكم الفيدرالية الأمريكية، وهو ما يعني إلغاء الحصانة السيادية التي تتمتع بها الشركات الوطنية في الدول المنتجة للنفط.
لكن هذه الخطوة، التي شكك البيت الأبيض نفسه في مكاسبها على الاقتصاد الأمريكي، تطرح مجموعة من الأسئلة منها، هل مشروع القرار هذا له أي صفة قانونية؟ وهل يتفق مع القانون الدولي وحق الدول السيادي في السيطرة والتصرف في مواردها الذي نص عليه قرار مجلس الأمن في 31 ديسمبر عام 1952؟ وهل ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة والعالم يعود فقط لارتفاع أسعار النفط القادم فقط من «أوبك» و«أوبك بلس»؟ وهل يوقع البيت الأبيض على القرار حال إقراره من الكونغرس؟ وماذا يمكن أن يفعل هذا التوجه لو أصبح قراراً نهائياً في علاقات الولايات المتحدة بحلفائها وأصدقائها وباقي دول العالم من منتجي النفط؟
لماذا الآن؟
هناك 4 أسباب رئيسية لارتفاع أسعار الطاقة عالمياً، وهي عسكرة الخلافات والصراع في أوكرانيا، والإصرار الأمريكي والغربي على رفض شراء نحو 7 ملايين برميل من النفط الروسي، والتحالفات العسكرية الكثيرة والمكلفة اقتصادياً التي دخلت فيها الولايات المتحدة، وغياب الرؤية المتوازنة بين ضرورة استمرار الاستثمار في النفط والغاز من ناحية، وبين التوجه نحو الطاقة الجديدة والمتجددة من ناحية أخرى، فضلاً عن التعافي الاقتصادي الواضح في ظل الخروج المتدرج من تداعيات جائحة كورونا.
لكن الأسباب الذي تقف وراء السعي المباشر لإقرار هذا القانون في الوقت الحالي كثيرة، ومنها التراجع الواضح في شعبية الرئيس جو بايدن، والحزب الديمقراطي، بعد أن قالت شبكة «سي إن إن» إن غالبية الأمريكيين يعتقدون أن سياسات بايدن أضرت بالاقتصاد، وقال 8 من كل 10 أشخاص إن الإدارة الأمريكية لا تفعل ما يكفي لمكافحة التضخم.
أصل القانون
ولهذا بدأ الكونغرس يبحث في الملفات القديمة، فوجد مشروع قانون «نوبيك» الذي اقترح النسخة الأولى منه السيناتور هيرب كول، في يونيو عام 2000، ثم أعيد طرحه عام 2007 على يد السيناتور جون كونيزر، لكنه لم يمرر بسبب موافقة 11 عضواً فقط من مجلس الشيوخ في ذلك الوقت.
لكن مسودة القانون الحالية تكتسب زخماً وقوة كبيرة، بسبب موجة العداء والدعاية السلبية الأمريكية ضد روسيا، الدولة العضو في «أوبك بلس»، والاتهامات الأمريكية لـ«أوبك» و«أوبك بلس»، برفض زيادة الإنتاج، رغم اتفاق المجموعة على زيادة الإنتاج في شهر يونيو القادم بنحو 432 ألف برميل يومياً.
الضرر بأمريكا أولاً
ورغم أن هذا القانون حال إقراره، سيؤثر سلباً على علاقة واشنطن بحلفائها من منتجي النفط في «أوبك» و«أوبك بلس»، إلا أن هناك سلسلة من الأسباب تؤكد أن هذا القانون سيضر أولاً بالولايات المتحدة نفسها، ومن تلك الأسباب:
أولاً: سعي الولايات المتحدة لتخفيض الأسعار وإغراق السوق بالنفط، ليس في صالح قطاع النفط الأمريكي نفسه، الذي يعتمد بشكل كبير على النفط الصخري، الذي يحتاج إلى تكاليف عالية لإنتاجه، ولا يمكن استخراجه إذا كان سعر برميل النفط منخفضاً أو حتى متوسطاً.
ثانياً: الارتفاع في أسعار الطاقة لا يتوقف فقط عند النفط ومنتجيه من دول «أوبك» و«أوبك بلس»، بل إن الارتفاع وصل لكل قطاعات الطاقة الأخرى، مثل الغاز والفحم واليورانيوم، فلماذا يريد الكونغرس معاقبة منتجي النفط فقط، رغم انفتاحهم الدائم على زيادة الإنتاج.
ثالثاً: المقاربة التي يطرحها مشروع نوبيك غير قانونية، لأن الولايات المتحدة نفسها تحدد أسعار منتجاتها من السلاح والقمح وغيرها بحسب آليات السوق، ومثل هذا القانون سيفتح الباب لدول أخرى لاتهام شركات وطنية لمنتجات استراتيجية أخرى، مثل الأسمدة والبذور والصناعات التكنولوجية بالاحتكار، ولهذا فإن سيف هذا القانون سيكون مسلطاً على الولايات المتحدة وشركاتها الوطنية، أكثر من أي دولة أو تكتل آخر في العالم.
هل يمرره البيت الأبيض؟
هذا الخيار يتوقف على عوامل كثيرة، منها الفترة التي يمكن أن تطول فيها الحرب الروسية- الأوكرانية، ومدى تراجع حظوظ الديمقراطيين في استطلاعات الرأي في ما يتعلق بانتخابات التجديد النصفي للكونغرس التي ستجرى نوفمبر القادم؟
فكلما تراجعت أسهم بايدن والحزب الديمقراطي، بحثوا عن شماعة خارجية لتحميلها هذا الفشل، لكن رغم اعتراض البيت الأبيض على مشروع القرار -حتى الآن- وفق ما صرحت به المتحدثة السابقة باسم البيت الأبيض جين ساكي، إلا أن الموافقة على مشروع القانون بنسبة تزيد على «الثلثين» في مجلسي النواب والشيوخ، ستدفع البيت الأبيض للموافقة عليه.
فمن النادر أن يستخدم البيت الأبيض حق الفيتو على قرار وافق عليه الكونغرس بهذه النسبة العالية من الدعم، كما أن تصويت 17 عضواً من 21 في اللجنة القضائية، هو مؤشر قوي على احتمالية الذهاب نحو الموافقة على هذا المشروع، سواء في مجلس النواب والشيوخ، أو من جانب بايدن.
لكل هذه الأسباب فإن مشروع قانون «نوبيك» ليس في صالح قطاع الطاقة الأمريكي، وسيعقد علاقات واشنطن مع حلفائها، وهو ما يتوجب على العقلاء، سواء في الكونغرس أو في البيت الأبيض، التدخل العاجل لوقفه، كما جرى إجهاضه من قبل مرتين، في عامي 2000 و2007.