استقرار اقتصادات العالم وإنهاء حرب أوكرانيا مرهون بقرار دول الخليج
بايدن ينتظر الانتهاء من تقرير «خلايا التفكير» الأمريكية للتصالح مع الرياض
تخفيف عقوبات فنزويلا والنووي الإيراني لن يحمي أوروبا من ركود قريب
مع توتر العلاقات السعودية - الأمريكية، لعبت سياسة «النفس الطويل» دوراً كبيراً لصالح الرياض، وأسهمت بصورة غير مسبوقة في تعزيز مواقف دول الخليج أمام الولايات المتحدة، لا سيما في ظل أزمة الطاقة العالمية على خلفية الحرب الدائرة في أوكرانيا؛ وهو ما حدا بـ«مجلس العلاقات الخارجية» في واشنطن إلى إعداد تقرير من المقرر نشره قريباً، يوصي البيت الأبيض بضرورة تحسين العلاقات مع حكومة الرياض، وإدراك أهمية المملكة ودول والخليج في الحفاظ على استقرار اقتصادات الولايات المتحدة والعالم؛ حتى أن التقرير رهن نهاية الحرب الأوكرانية بمدى تحسُّن العلاقات بين ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، والرئيس الديمقراطي جو بايدن.
ولا يعد «مجلس العلاقات الخارجية» مجرد مؤسسة بحثية تقليدية، وإنما تضعه دوائر صنع القرار في واشنطن على رأس قائمة المؤسسات المعنية بصياغة السياسات الخارجية الأمريكية، بينما تطلق عليه محافل أخرى «مركز أعصاب» القرار الأمريكي؛ فالمؤسسة التي جرى تأسيسها في 1921، تضم نخبة «خلايا التفكير» الأمريكية، وينتمي إليها ما يربو على 5000 عضو من كبار الشخصيات الأكثر تأثيراً ونفوذاً في الولايات المتحدة؛ وتمثل تلك النخبة كبار رجال الأعمال، والاقتصاد، والسياسة، وممثلي أدوات الضغط كافة.
واقع مأزوم
وفي ظل الواقع الراهن الذي تمر به العلاقات الأمريكية – السعودية من جهة، والأمريكية - الخليجية من جهة أخرى، اقترح معدا التقرير المزمع نشره ستيفن كوك ومارتن إنديك ضرورة إبرام «صفقة كبرى»، تعمل إدارة بايدن بموجبها على تحسين العلاقات مع الأمير محمد بن سلمان، وتقديم تعهدات أكثر وضوحاً بالدفاع عن السعودية مقابل سلسلة إجراءات، يعتليها عمل حكومة الرياض على إنهاء الحرب الدائرة في اليمن. وإلى جانب التسويات الأمريكية – السعودية التي يمكن وصفها بالإقليمية، ذهبت تحليلات أخرى إلى أبعد من ذلك، واعتبرت تحسن علاقات واشنطن – الرياض «كلمة سر مفصلية» في وضع أوزار الحرب الأوكرانية، وأنه دون مثل هذه التسوية لن يقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالجلوس حول طاولة مفاوضات مع الأوكرانيين، أو مع معسكر الغرب بما في ذلك الولايات المتحدة. ولا يبعد هذا التصور كثيراً عن الكاتب الأمريكي ذي الأصول الهندية فريد زكريا، الذي انتقد معارضي التقارب بين حكومتي الرياض وواشنطن، وقال: «أكثرية معارضي تحسين العلاقة بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس القابع في البيت الأبيض، لا يمتلكون تصوراً لمآلات العلاقات الأمريكية – السعودية، حتى أنهم تركوها جامدة ومختلَّة بشكل دائم».وفي مقاله المنشور بـ«واشنطن بوست»، هاجم الكاتب ذو الأصول الهندية مجلس تحرير الصحيفة التي نشرت مقاله، وحسبها على فريق معارضة تحسين علاقات البيت الأبيض مع السعودية ودول الخليج، وشرع في تعميق وجهة نظره في هذا الخصوص، حين استهل حديثه بإلقاء الضوء على الحرب الروسية في أوكرانيا، وعلاقة خمودها باستقرار اقتصادات العالم.إقرأ أيضاً..حرب التصريحات.. الصين وأمريكا في «أبعد نقطة» منذ الحرب العالمية الثانية
أراضٍ جديدة
المرحلة اللاحقة من الحرب الأوكرانية لا تغيب عن عيون المراقبين، حسب ظن الكاتب الأمريكي؛ فعلى مدار الأسابيع والأشهر القادمة، تعتزم القوات الروسية توسيع نطاق سيطرتها على الأراضي التي احتلتها شرق أوكرانيا، والشروع في التوغل لضم أراضٍ جديدة؛ وفي مقابل مقاومة شرسة من جانب الشعب والجيش الأوكراني، من المرجح استمرار المعارك بوتيرة متواضعة في هذه المناطق، كما حدث في منطقة دونباس عام 2014. وهو ما يعني أن السبيل الوحيد للخروج من هذا الصراع هو ممارسة ضغط كافٍ على روسيا لإجبارها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، والسعي إلى تخفيف العقوبات مقابل اتفاق سلام.ولتحقيق ذلك، يفتقر معسكر الغرب بما في ذلك الولايات المتحدة إلى ما تبقى من قوة لإطالة مدى العقوبات والحصار المفروض على موسكو، أو إن أمكن تشديده. ولن يمكن التوصُّل إلى هذا السيناريو دون انخفاض أسعار الطاقة، والحيلولة دون ارتفاعها إلى الحد الذي وصلت إليه. ويرى الكاتب المسؤول عن النسخة الدولية في صحيفة «نيوزويك»، أنه إذا ظلت أسعار النفط فوق حاجز 100 دولار للبرميل – وهى مرشحة لأكثر من ذلك – فيجب على أوروبا التأهب للدخول قريباً في حالة من الركود، وأن يستعد كامل اقتصادات العالم لانخفاض حاد في معدلات النمو، فضلاً عن ردود فعل سياسية ضد العقوبات؛ وهو ما يعني أيضاً وفي إطار شبه مؤكد انهيار التحالف المناوئ لروسيا، واضطرار دوله إلى البحث عن طرق للحصول على طاقة أقل سعراً؛ وهذا بالتأكيد هو أمل فلاديمير بوتين.
أسعار النفط
لذا، يؤكد الكاتب، الذي يعمل أيضاً مقدماً لبرنامج أسبوعي في شبكة CNN، أن السبيل الوحيد والمنطقي لمواصلة الضغط على روسيا مع تفادي إصابات اقتصادات العالم بالشلل هو خفض أسعار النفط. والطريقة الناجزة الوحيدة لتفعيل تلك الخطوة هي حث السعودية، التي تعد ضمن أكبر منتجي العالم، وكذلك دول الخليج الأخرى مثل الإمارات العربية المتحدة والكويت، على زيادة إنتاج النفط. ورغم ما يعتبره الكاتب فريد زكريا سبيلاً موازياً، يمكن من خلاله إثراء إنتاج النفط بأسرع ما يمكن، مثل تخفيف الحظر المفروض على فنزويلا، والعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني؛ إلا أنه يرى في الوقت ذاته أن دول الخليج يمكنها بسهولة زيادة الإنتاج بملايين البراميل يومياً، والحفاظ على تدفق مثل هذه الإمدادات جيداً في المستقبل. مع ذلك، ورغم المناشدات العديدة من جانب الولايات المتحدة، ترفض المملكة العربية السعودية والإمارات المتحدة زيادة معدلات إنتاج النفط.ويعزو الكاتب الموقف السعودي وربما الخليجي أيضاً إلى سياسات رئيس الإدارة الأمريكية الديمقراطي منذ بداية دخول البيت الأبيض، إذ وصف المملكة بـ«الدولة المنبوذة»، وتفاديه عقد لقاء رسمي حتى الآن مع الأمير محمد بن سلمان، ما حدا بولي العهد السعودي إلى رفض طلبات واشنطن برفع سقف إنتاج النفط؛ فضلاً عن تحركه في المقابل نحو تعزيز علاقات بلاده مع روسيا والصين.
حزن وخذلان
في السياق، ومن بوابة تحسين العلاقات الأمريكية – السعودية، يولي الكاتب أهمية كبيرة لـ«الصفقة الكبرى»، التي اقترحها «مجلس العلاقات الخارجية» الأمريكي، واعتبرها فكرة تستحق التعامل بجدية، ولا مانع من التوسع فيها، لتشمل الإمارات العربية المتحدة، ودول الخليج الأخرى، وكذلك مصر؛ فرغم «الخلافات السطحية» بين تلك الدول وواشنطن، إلا أن الدول المحسوبة على المعسكر السنِّي المعتدل في الشرق الأوسط، ترغب في ضمانات أمريكية أكثر صلابة إزاء كل ما يخص أمنها في شرق أوسط غير مستقر بشكل متزايد.
ولا يمكن حيال ذلك تجاهل شعور السعوديين بالقلق بعد تعرض منشآتهم النفطية لهجمات مسيَّرات في 2019 من جانب الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن؛ وبعد تجاهل إدارة ترامب تحريك ساكن في حينه للرد على الهجمات أو الانتقام. كما واجهت الإمارات المتحدة هجوماً مماثلاً في يناير 2022، وشعرت بالحزن والخذلان أيضاً إزاء تجاهل إدارة بايدن للرد، أو على الأقل تقاعسها في سرعة التعاطي مع الأزمة. وخلص الكاتب الأمريكي إلى طريقة تستطيع من خلالها واشنطن نشر مظلة أمنية جديدة في المنطقة، تحتمي بها دول الخليج ومصر بالإضافة إلى إسرائيل، مؤكداً أن تلك الخطوة تقود إلى استقرار البيئة الأمنية في المنطقة؛ وحجب احتمالات حدوث سباق تسلح نووي في المنطقة؛ وتوفير إمكانية وصول العالم الصناعي إلى الطاقة.
إقرأ أيضاً..استئناف الحوار السعودي- الإيراني في العراق
رؤية استراتيجية
إلا أن فريد زكريا رهن النجاح في كل ذلك بتصالح الولايات المتحدة مع محمد بن سلمان. وانتهج الكاتب منطقاً برغماتياً في تبرير وجهة نظره، مشيراً إلى أن «حقيقة الأمر هي أن محمد بن سلمان من المرجح أن يحكم المملكة العربية السعودية على مدى الخمسين عاماً القادمة؛ كما أنه حاكم البلاد المطلق (مثل كل من سبقوه)، ويعتبره الجميع داخل المملكة إصلاحياً، وهو ما حباه بشعبية كبيرة بين الشباب السعودي، لا سيما في ظل تقويضه صلاحيات «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وقيادة انفتاح بلاده على مجالات الترفيه والسياحة، ومنح المرأة السعودية حقوقاً وحريات غير مسبوقة». الكاتب الأمريكي ذيَّل مقاله المنشور في «واشنطن بوست» بالإشارة إلى أن فقه العلاقات الدولية يوصي في كثير الأحيان بتغليب الرؤية الاستراتيجية على نظيرتها الأيديولوجية؛ وربما كان ذلك واضحاً، على حد قوله، خلال الحرب الباردة، حين تعاونت واشنطن مع بكين في ظل حكم ماو – الذي كان البيت الأبيض يعتبره أكثر الأنظمة البغيضة – من أجل الضغط على الاتحاد السوفييتي في حينه؛ فإذا أرادت واشنطن إحراز انتصار في حربها الباردة الجديدة مع روسيا، فعليها تبني رؤية استراتيجية في آفاقها.