تزداد حدة التصريحات المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية عقب بداية الحرب بين روسيا وأوكرانيا، بما ينذر بإمكانية اندلاع صراع جديد داخل بقعة ما في العالم، رغم المحاولات الحثيثة من جانب الصين للنأي بنفسها عن الدخول في أي مواجهات عسكرية، لا سيّما مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإنها لا تألو جهداً في الرد الحازم على أقوال وأفعال الإدارة الأمريكية التي تعدها استفزازية، بما يبرهن على أن الصين والولايات المتحدة الأمريكية في أبعد نقطة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. أستاذ الاقتصاد بجامعة نيس، ورئيس الجمعية الاقتصادية الفرنسية أيضاً، دكتور آلان صفا، يقول إن نقطة انطلاق الصراع بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية بدأت منذ 10 سنوات عندما حاولت الصين احتلال المركز الأول من حيث القوة الاقتصادية عالمياً، وهو المركز الذي احتلته الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب العالمية الأولي، الأمر الذي دفع الأخيرة إلى عرقلة الجهود الصينية للحيلولة دون تحقيق هدفها، إذ رفضت اشتراكها في المؤسسة الفضائية العالمية، بالإضافة إلى رفض إعطاء الصين أصوات أكثر في مجلس الأمن الدولي والبنك الدولي.
تايوان والتصريحات الاستفزازية
في أخر تصريحاته حول تايوان أكد البيت الأبيض على بذل الولايات المتحدة الأمريكية قصارى جهدها لمنع إعادة توحيد الصين وتايوان بالقوة، في الوقت الذي ترفض الصين أي مجال للمساومة بخصوص تلك القضية، ورغم أن هذا التصريح لم يكن الأول للولايات المتحدة الأمريكية التي طالما لجأ رئيسها جو بايدن إلى إطلاق تصريحات بشأن تايوان، تعد أشهرها تلك التصريحات التي قالها بايدن رداً على سؤال خلال إحدى المؤتمرات الصحافية حول ما إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة للدفاع عسكرياً عن تايوان إذا تعرضت الجزيرة للهجوم صيني، إذ رد قائلاً: «نعم لدينا التزام بهذا الشأن». تأتي شهرة تلك التصريحات من تكرارها مرتين على لسان جو بايدن بما يعد مخالفاً لسياسات الولايات المتحدة تجاه تايوان التي تتسم بـ«الغموض الاستراتيجي»، وجاءت المرة الثانية أيضاً خلال إحدى المقابلات وصف خلالها بايدن الدفاع عن الحلفاء في كوريا الجنوبية، اليابان، وتايوان بـ«الالتزام المقدس»، الأمر الذي أضطر البيت الأبيض لاحقاً إلى التأكيد على أن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية حيال تايوان لم تتغير، منوهين بأن الرئيس لم يكن بصدد الإعلان عن أي تغيير في السياسات الأمريكية التي لازالت تقتدي بقانون العلاقات مع تايوان الصادر في 1979، والذي طالب خلاله الكونغرس بالتزام الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الجزيرة بتوفير السلاح للدفاع عن نفسها، الأمر الذي أكده وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، إذ أشار إلى مواصلة مساعدة تايوان بما تحتاج إليه للدفاع عن نفسها.
إقرأ أيضاً...روسيا تغير خططها العسكرية في شرق المتوسط .. ماذا تفعل؟
رد الفعل الصيني
الصين اتبعت سياسة رد الفعل دائماً للرد على التصريحات البيضاوية، وحذر المتحدث باسم الخارجية الصينية، واشنطن، من ضرورة التحدث بحذر بشأن قضية تايوان، قائلاً: «الصين لن تفتح المجال لأي مساومة بشأن القضايا التي تتعلق بمصالحها الجوهرية»، غير أن الصين لم تكتفِ بالتصريحات الشفهية، لا سيما بعد زيارة وفد من الكونغرس لتايوان، ما دفعها إلى تنفيذ طلعات جوية قياسية بلغت 149 خلال 4 أيام جنوب غرب تايوان خلال احتفالية الصين بالعيد الوطني، في رسالة مفادها أن الصين لا تتساهل مع أي إشارات خاطئة تجاه تايوان قد تدفعها لإعلان الاستقلال، وذهب السفير الصيني في الأمم المتحدة، زهانغ جون، إلى اتهام الولايات المتحدة باتخاذ خطوات خطيرة تدفع بالأوضاع في مضيق تايوان إلى اتجاه خطير، وحذرت الصين من أن معالجة قضية تايوان بصورة غير مناسبة يدمر العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، لافتة إلى ضرورة معالجة القضية بشكل سليم لتجنب أي تأثير سلبي على العلاقات الصينية- الأمريكية. وزير الخارجية الصيني دخل على خط التصريحات وأطلق تصريحاً نارياً أكد خلاله على ضرورة إعادة الولايات المتحدة الأمريكية سياستها تجاه الصين إلى مسار صحيح أكثر براغماتية، مشدداً على أن اللعبة الصفرية بين الدول الكبرى ليست الخيار الصحيح، مضيفاً؛ أنها تواصل استفزاز الصين بشأن القضايا الجوهرية، وتتخذ سلسلة من الإجراءات لتجميع تكتلات صغيرة لقمع الصين. وأوضح أن وضع معايير ديمقراطية وفق النموذج الأمريكي أمر غير ديمقراطي. صفا يرى أن الصراع الخاص بتايوان يعود إلى عام 1947 عقب هزيمة الحزب الوطني، والذي كانت تعتبره الولايات المتحدة أقرب لها من نظيره الشيوعي، ما دفعها إلى الاعتراف بتمثيل تايوان للشعب الصيني بأكمله، غير أن ظروف الحرب الباردة اضطرت الولايات المتحدة إلى إجراء تعديل في سياستها لاستمالة الصين كحليف في مواجهة الاتحاد السوفيتي حينها، واعترفت مجدداً بأن الصين هي الممثل الوحيد لجميع المناطق التابعة لها بما في ذلك هونج كونج، وتايوان، غير أنه مع اشتداد التنافس بين البلدين في السنوات الماضية، سعت الولايات المتحدة إلى إعطاء نوع من النفوذ لتايوان من أجل إعطاء إنذار للصين بإمكانية العودة عن الوعود التي قطعتها الولايات المتحدة خلال سبعينيات القرن الماضي.
أوكرانيا.. نوايا شريرة
جاءت أوكرانيا في المرتبة الثانية في حرب التصريحات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وجاءت البداية خلال الاتصال الهاتفي بين رئيسي البلدين في نوفمبر الماضي والذي حذر خلاله بايدن نظيره الصيني من عواقب وخيمة حال دعمت الصين روسيا عسكرياً أو مادياً، كونها القوة الكبيرة الوحيدة التي لم تندد بالعملية العسكرية، بالإضافة إلى امتناعها عن التصويت ضد روسيا في مجلس الأمن بشأن قرار يدين موسكو، الأمر الذي نفته الصين واتهم المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، تشاو ليجيان، واشنطن بنشر معلومات مضللة ضد الصين حول الوضع في أوكرانيا بنوايا شريرة، لا سيما أن موقف الصين واضح وثابت في تغليب المفاوضات السلمية وتخفيف التوتر بدلاً من صب الوقود على النار. استخدام المتحدث باسم الخارجية الصينية مصطلح صب الوقود على النار جاء بعد نشره رسماً كاريكاتيرياً على موقع التدوينات الشهير «تويتر» خلال اليوم الرابع للعملية العسكرية في أوكرانيا يظهر رجل يرتدي الزي الأمريكي وهو يصب الوقود على نار متسائلاً: لماذا لا تستطيع الصين المساعدة في إطفاء النيران؟ في إشارة إلى أن الولايات المتحدة تسعى للإبقاء على جبهة صراع مفتوحة داخل أوكرانيا. السفارة الصينية في روسيا أكدت بدورها أن التهديد الحقيقي للعالم هو الولايات المتحدة الأمريكية، داعية إلى الاطّلاع على قائمة الدول التي قصفتها بعد الحرب العالمية الثانية، ونشرت قائمة من 20 دولة حول العالم أكدت السفارة أن الولايات المتحدة تدخلت في شئونها أو قصفتها فعلياً، في وقت استخدمت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي، ويندي شيرمان، طرق أكثر استقطابية للحزب الشيوعي الصيني، وأكدت أن مستقبله مع الدول المتطورة والنامية - تقصد الولايات المتحدة وأوروبا- وليس في دعم الرئيس الروسي بوتين. الهدف الأساسي من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على روسيا استهداف الصين، لا سيما أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تعتبر أن روسيا قادرة على منافستها كقوة عالمية، إذ رغم امتلاكها أسلحة نووية فإنها لا تمتلك الاقتصاد العالمي والشركات والتكنولوجيا وبالطبع عدد السكان من أجل التأثير على قوة أمريكا بحسب « صفا». ويرى أستاذ الاقتصاد بجامعة نيس أن العلاقات بين الصين وروسيا تضمن وجود نوع من التكامل، لذا فإن الهدف الحقيقي من وراء الحرب في أوكرانيا إضعاف روسيا ومن ثم إضعاف الصين، بدليل التلميحات التي تسوقها الولايات المتحدة والسوق الأوروبية المشتركة بإمكانية تطبيق عقوبات مماثلة على الصين حال عدم التزامها بالعقوبات المفروضة على موسكو، بالتالي يعد هذا الأمر بداية حرب تجارية كمرحلة أولى مع الصين سوف تمتد إلى نوع آخر من الحروب.
شينجيانغ.. حرب إعلامية
وقع الرئيس الأمريكي على قانون يحظر استيراد السلع من منطقة شينجيانغ الصيني - منطقة تحتل مكانة رئيسية لسلاسل التوريد في العالم- ما لم تثبت الشركات أنها ليست مصنوعة عن طريق العمل القسري، ورغم اختلاف أعضاء الكونغرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول معظم القضايا الرئيسية، فإنه تم تمرير القانون بالإجماع في مجلسَيْ النواب والشيوخ، ما يؤكد وجود اصطفاف حزبي خلف القضايا المتعلقة بالصين، رغم الضرر الواقع على الشركات الأمريكية التي تستورد مواد للإنتاج من الإقليم الصيني. الرئيس الصيني لم يقف مكتوف الأيدي وأطلق تحذيرا لنظيره الأمريكي أكد خلاله على أن المواجهة بين البلدين ستكون كارثية، وتمسك بنهج صارم تجاه هونج كونج، شينجيانغ، وتايوان، واصفاً إياها بقضايا تتعلق بالسيادة ووحدة الأراضي، داعياً واشنطن إلى تناولها بحذر، فيما أشارت إدارة بايدن إلى أنها ستواصل الضغط على بكين، وأيدت زعم الإدارة السابقة للرئيس ترامب الذي يفيد بأن الصين ارتكبت إبادة جماعية في شينجيانغ. لم تتوقف التصريحات والانتقادات عند هذا الحد، بل تبادل الجانبان انتقادات لاذعة بشكل متزايد بسبب جهود إدارة بايدن لتنظيم مقاطعة دبلوماسية لدورة الألعاب الشتوية المقامة في بكين؛ احتجاجاً على طريقة التعامل مع أقلية الإيغور المسلمة في شينجيانغ.
ورغم كون القضية إنسانية فإنها بدأت تأخذ أهمية في العلاقات الدولية بعد اشتداد التنافس بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، ويؤكد أستاذ الاقتصاد بجامعة نيس أن الأقلية المسلمة داخل الإقليم الصيني بدأت بالتقارب مع الجمعيات المتشددة في أفغانستان وباكستان بحكم التقارب بين الحدود، ما أظهر نوعاً من التشدد الإسلامي داخل شعب الإيغور، ما اضطر الصين إلى اتخاذ قرارات صعبة، ورغم كون الأمر شأناً داخلياً فإنه بدأ يأخذ أبعاداً عالمية في إشارة إلى أن الصراع بين الصين والمعسكر الغربي لا زال مستمراً، وأن هذا المعسكر سوف يستخدم كل النقاط من أجل تكسير العلاقات التي يمكن أن تبنيها الصين مع بلدان إسلامية كنوع من حرب إعلامية، والتي تعد من أخطر أنواع الحروب، والتي نجحت الولايات المتحدة في استخدامها خلال الحرب الباردة، وأيضاً خلال الحرب الأوكرانية الحالية.
إقرأ أيضاً..«سباق التسلح».. هل الدفاع القوي ضرورة لاقتصاد قوي؟
حقوق الإنسان
الرئيس الأمريكي استغل قضية حقوق الإنسان وآثارها خلال أول اتصال هاتفي جمعه بنظيره الصيني، مؤكداً على أن الصين ستدفع ثمن انتهاكاتها لحقوق الإنسان، مشدداً على إطلاع الولايات المتحدة مجدداً بدورها العالمي في الدفاع عن حقوق الإنسان، لذا إذا أرادت الصين أن تصبح زعيمة عالمية عليها كسب ثقة الدول أولاً، الأمر الذي يراه بايدن صعباً طالما أنها تمارس أنشطة تتعارض مع حقوق الإنسان. ما قبل الحرب الأوكرانية التصريحات العدائية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية لم تقتصر على الفترة فيما بعد الحرب الروسية - الأوكرانية، إذ يحضرنا التصريح الشهير للرئيس الصيني، شي جين بينغ، خلال زيارته إلى بريطانيا في 2015 والذي أكد خلاله على أن الصين لا تبحث عن فرصة لتحل محل الولايات المتحدة الأمريكية كـ«شرطي للعالم». الولايات المتحدة بدورها دعت الصين في 2013 إلى إنهاء السرقة المباشرة عبر القرصنة الإلكتروني، بدأت بعدها سلسلة من الاتهامات بين الجانبين ادّعت خلالها الصين تعرضها لقرصنة واسعة على حكوماتها وشركاتها. ووفقاً لـ«صفا» فإن القرصنة مستخدمة من جميع بلدان العالم، وتسعى كل الدول إلى تطوير أسلحة القرصنة الإلكترونية، وبالطبع الولايات المتحدة الأمريكية لديها قوة في هذا الشأن، وتطوير الصين قدرتها في هذا المجال يأتي لإيجاد نوع من التوازن الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، غير أن الأشد خطورة على أمريكا خلال المرحلة المقبلة يعد تحضير الصين لما بعد الثورة الصناعية واختراقها مجال الذكاء الاصطناعي، إذ تشير التقارير إلى أن الاختراعات الصينية في هذا المجال تفوق نظيرتها الأمريكية، ما ينذر بملامح منافسة جديدة تشتد خلال السنوات المقبلة إذا لم تستطع الولايات المتحدة الأمريكية السيطرة على الصين خلال المرحلة الراهنة. إضافة إلى ما سبق تشير التقارير إلى أن المحور النقدي أصبح على المحك، وأن البلد الوحيد القادر على منافسة الدولار الأمريكي في الأسواق العالمية هو الصين، بسبب حجم اقتصادها والاستيراد والتصدير، فضلاً عن أن الصين البلد الوحيد الذي يملك الكفاءة على تحويل عملتها إلى عملة أخرى عالمية، غير أن رغبة الصين في تمدد النمو الاقتصادي الخاص بها مع الولايات المتحدة وأوروبا يحول دون كسر النفوذ الأمريكي خلال الوقت الراهن، لكن حال أجبرت على الدخول في صراع مباشر فإن ذلك من شأنه أن يخلق نوعا من التنافس حول النفوذ النقدي، خاصة بعد أن بدأت الصين في إنشاء نظام منافس لـ«السويفت».