بعد مرور 5 أسابيع على بداية الصراع الروسي الأوكراني، دون أن تظهر في الأفق أي بوادر للحسم العسكري لأي من الجانبين، يمكن القول إن أوكرانيا تدفع ثمن تحديها لموسكو، بتشجيع من الغرب منذ الثورة البرتقالية عام 2008، وثمن سعيها إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهي الطموحات التي تعارضها روسيا تماماً وتعتبرها تهديداً مباشراً لأمنها القومي.
ويقول المحلل الأمريكي والمحامي الدولي رامون ماركس، في تحليل نشره موقع مجلة «ناشونال إنترست» الأمريكية: إنه على مدى أكثر من عشر سنوات، رفضت أوكرانيا التفاوض حول إعلان حيادها بين روسيا والغرب أو إقامة علاقات وثيقة مع موسكو، وعلى الرغم من التهديدات الروسية المتكررة و«الخطوط الحمراء»، وقفت كييف في وجه فلاديمير بوتين.
دون كيشوت
هذه المقاومة الأوكرانية أدت، في النهاية إلى خسارة شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا، ونشوب حرب أهلية أشعلتها موسكو في إقليم دونباس الأوكراني، قبل إعلان انفصاله بعد ذلك، وفي نهاية المطاف تعرضت أوكرانيا لعملية عسكرية من قِبَلِ روسيا، كما شجعت الديمقراطيات الغربية أوكرانيا على اتباع هذا النهج الـ«دون كيشوتي»، في حين أعلنت أنه ليس أمام أوكرانيا أي فرصة للانضمام إلى الناتو في المدى القريب.
و«دون كيشوت» هي رواية للأديب الإسباني ميجيل ثيربانتس تروي قصة رجل بسيط كان يحلم بالفروسية فأخذ يحارب طواحين الهواء. وصار يُضرب به المثل للتعبير عن أي شخص أحمق يحارب -بلا طائل- قوى أكبر منه.
ومع ذلك يمكن القول إن أوكرانيا حققت الآن المستحيل بفضل الدعم العسكري من الناتو وأبطأت العملية العسكرية الروسية لأراضيها وجعلتها تمضي في طريق مسدود، بحسب ماركس.
ويرى الكاتب في هذا السياق أن الشروط التي قد تنهي بها روسيا وأوكرانيا الحرب بينهما ستخضغ في نهاية المطاف لخيارات الشركاء المتحاربين أكثر من أي طرف آخر، فبعد بدء الصراع، تراجعت أوكرانيا عن موقفها الرافض لإعلان حيادها، ورغم أن الدستور الأوكراني ينص على السعي للانضمام إلى حلف الناتو، أشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى استعداد بلاده للتراجع عن هذا الخيار بعد ثلاثة أيام من بدء الحرب.
معضلة الحياد
وستكون المفاوضات بشأن حياد أوكرانيا صعبة للغاية، ومن المحتمل أن يدعو كل من زيلينسكي ونظيره الروسي بوتين إلى تعهدات سياسية من جانب واشنطن والناتو لضمان الوضع المحايد لأوكرانيا، وربما يكون على غرار اتفاقية الدولة النمساوية لعام 1955، وكانت الولايات المتحدة طرفاً مصدقاً على معاهدة حياد النمسا، إلى جانب كل من فرنسا وبريطانيا.
وفي ظل انسحاب الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، فإن روسيا قد تصر على توقيع واشنطن وحلف الناتو على معاهدة حياد أوكرانيا، وليس الاكتفاء بمجرد التزام قانوني من الطرفين باحترام مثل هذه المعاهدة التنفيذية، وبالطبع ستواجه الإدارة الأمريكية صعوبة كبيرة في تمرير مثل هذه الاتفاقية في مجلس الشيوخ، لذلك فقد تحاول وزارة الخارجية الأمريكية إيجاد بديل يمكن لمجلس الشيوخ قبوله وفي الوقت نفسه يستجيب لمطالب روسيا وأوكرانيا.
اقرأ أيضاً.. الحرب الأوكرانية.. دلالات تغيير موازين القوى في أوروبا
وبالطبع فإن أي صيغة لحياد أوكرانيا سيخلق صعوبات دبلوماسية عديدة بالنسبة لواشنطن، ولا شك أن بوتين سيحاول الحصول على نهاية للعقوبات الغربية على بلاده، كشرط إضافي لإنهاء الأعمال العدائية، في الوقت نفسه فإن رفع هذه العقوبات سيصطدم بمعارضة القوة الليبرالية في العالم والتي تؤكد مسؤولية الولايات المتحدة عن دعم «الشعوب الحرة».
القرم ثم دونباس
وستؤكد هذه القوى صعوبة القبول بعدم معاقبة روسيا على العملية العسكرية وعلى احتلال شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس، حتى إذا قبلت أوكرانيا بهذا من أجل إنهاء الحرب ضدها، وسيسعى أنصار العولمة إلى ضرورة معاقبة روسيا على الصراع كما تمت معاقبة ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى وإلزامها بدفع تعويضات عن الخسائر التي سببتها الحرب، وسيكون الوصول إلى اتفاق سلام في أوكرانيا شبه مستحيل إذا رفض الغرب صيغة اتفاق تضمن عدم إهانة أي من الطرفين الروسي والأوكراني.
وفي حين دفعت أوكرانيا ثمناً باهظاً للحرب الروسية، فإن هذه الحرب أدت إلى تحول في توازن القوة، سيؤدي إلى فوائد استراتيجية ليس فقط لأوروبا وإنما أيضاً للأمن العالمي، فالحماقة الروسية في أوكرانيا، حسب وصف ماركس، أيقظت حلفاء أمريكا الأوروبيين، وبدأت الدول الأعضاء في حلف الناتو تحديث حيوشها، حتى تتمكن من الدفاع عن نفسها ضد أي عدوان روسي بالأسلحة التقليدية.
ويمكن للدول الأوروبية الوصول إلى الهدف، في الوقت نفسه، فإن العملية العسكرية أظهرت أن الجيش الروسي ليس العملاق الذي يخشاه الغرب، كما أن إجمالي الناتج المحلي للدول الأوروبية الأعضاء في الناتو يبلغ حوالي 4ر20 تريليون دولار وهو ما يساوي تقريباً إجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة، في المقابل فإن إجمالي الناتج المحلي لروسيا لا يزيد عن 5ر1 تريليون دولار، كما أن عدد سكان روسيا البالغ 140 مليون نسمة يتراجع، مقابل نمو سكان الديمقراطيات الأوروبية البالغ عددهم 600 مليون نسمة.
وستكون بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا إلى جانب الـ26 دولة أوروبية الأخرى، قادرة على التصدي لأي هجوم روسي متهور على أي دولة عضو في الناتو. كما أن إجمالي تعداد قوات دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة يبلغ حوالي 26ر1 مليون جندي في حين أن قوام الجيش الروسي قبل غزو أوكرانيا كان 900 ألف جندي عامل.
أمريكا.. درع عفا عليه الزمن
ويقول رومان ماركس إنه يجب أن يكون ضمن أولويات السياسة الخارجية الأمريكية نقل الجزء الأكبر من مسؤولية الدفاع عن أوروبا إلى حلفائها الأوروبيين، وبالتدريج يقل الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا دون أن يعني هذا تبني واشنطن لسياسة انعزالية، وإنما يعني السماح لواشنطن بإعادة نشر قواتها لمواجهة التحديات العالمية الأخرى.
المفارقة هي أن أكبر عقبة أمام تحقيق هذا التغيير لن تكون المعارضة الأوروبية وإنما العقلية السائدة في واشنطن، فعلى مدى الـ75 عاماً الماضية، قامت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي على مبدأ ضرورة ممارسة الولايات المتحدة للقيادة العسكرية على مستوى العالم لحماية الديمقراطية.
وفي حين تبحث أوروبا عن البدائل لتشكيل قوة قتالية فعالة، يجب أن يقبل الدبلوماسيون والعسكريون الأمريكيون الحتمية التاريخية. فسواء كان ذلك في إطار حلف الناتو أو جنباً إلى جنب مع بدائل أخرى مثل مبادرة «البوصلة الاستراتيجية لقوة الدفاع الأوروبية» التي أقرها وزراء الدفاع الأوروبيون، يجب أن يكون الهدف هو دعم الأوروبيين في الوصول إلى الصيغة الملائمة لضمان أمنهم.
أخيراً، يرى ماركس أن من بين النتائج الاستراتيجية للصراع، ضرورة تخلي الديمقراطيات الأوروبية عن هيكل الحرب الباردة الذي عفا عليه الزمن والذي يقوم على أساس وجود درع أمريكي لحماية أوروبا.