يتذكر الجميع مشروع مارشال لإعادة تعمير أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والذي أعلنه رئيس الأركان ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق جورج مارشال، من جامعة هارفارد، في 5 يونيو 1947، باعتباره مشروعاً اقتصادياً لبناء ما دمرته الحرب.
لكن الثابت أنه بجانب ذلك، كان المشروع وسيلة الولايات المتحدة لمنع تغلغل الأفكار الشيوعية والاتحاد السوفيتي السابق في القارة الأوروبية التي كانت تعاني وقتها الفقر والبطالة، ولهذا قررت أمريكا أن تنفق 12.9 مليار دولار في 4 سنوات بداية من عام 1948 في البنية التحتية للاقتصاد الأوروبي، ويعادل هذا المبلغ نحو 800 مليار دولار من الناتج القومي في الوقت الحالي، بحسب كتاب للمؤرخ الاقتصادي الكبير بن ستيل الذي صدر عام 2018.
وبعد 73 عاماً من مشروع مارشال، أدركت أوروبا أهمية مشروعات البنية التحتية، ليس فقط داخل دول الاتحاد، بل في العالم بأسره، من أجل تحقيق نفوذ سياسي واقتصادي، يتناسب مع الكتلة الاقتصادية الضخمة للاتحاد، الذي يضم 27 دولة.
مبادرة البوابة العالمية
لذلك طرحت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، في خطاب حول حالة الاتحاد السنوي، في 15 سبتمبر الماضي، أمام البرلمان الأوروبي، مبادرة البوابة العالمية ((Global Gateway، التي جاء الإعلان عنها رسمياً في 1 ديسمبر الجاري.
وتركز المبادرة على الاستثمار في البنية التحتية، ومواد البناء، والسكك الحديدية، والطرق السريعة، وشبكات الطاقة، والحديد والصلب، وهي خطة تتكلف 300 مليار يورو (نحو 340 مليار دولار)، وينتهي العمل بها في عام 2027، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية.
وترى المفوضية الأوروبية أنه حان الوقت لتحول أوروبا مبادرة البوابة العالمية إلى علامة تجارية موثوق بها حول العالم، وبناء شراكات بفضل هذه المبادرة، مع دول حول العالم، من خلال الاستثمار في البنية التحتية عالية الجودة، وربط السلع والأفراد والخدمات حول العالم.
منافسة الصين
ورغم أن الدول الأوروبية التي كلفت المفوضية بإعداد هذه المبادرة، منذ 3 شهور، تتجنب القول بصراحة إن مبادرة البوابة العالمية تتحدى الصين، إلا أن دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية، انتقدت خطة الصين للبنية التحتية، التي يطلق عليها «الحزام والطريق»، عندما قالت «نحن بارعون جداً في تمويل الطرق، لكن ليس من المنطقي بالنسبة لأوروبا بناء طريق مثالي بين منجم نحاس مملوك للصين وميناء مملوك للصين أيضاً.. نريد مشروعات يتم تنفيذها بمستوى عالٍ من الشفافية والحوكمة والجودة».
وكانت شبكة يورو نيوز الإخبارية، أكثر وضوحاً تجاه الصين، عندما قالت «تعتبر البوابة العالمية خطة بديلة ومنافسة في الوقت ذاته، لمواجهة نفوذ الصين، وهي تهدف إلى رسم معالم خطة عالمية حول البنية التحتية، موجهة إلى الدول الفقيرة أيضاً، لمنافسة مشروع الحزام والطريق الصيني، من خلال عرض مساعدات على الدول النامية من التمويل كبديل للاعتماد على شبكة الطرق والسكك الحديدية والموانئ الصينية».
ويتحدث الأوروبيون كثيراً عن النشاط الاقتصادي الصيني، في مناطق مثل البلقان وصربيا واليونان، ولا يغفلون أنه حتى مارس 2019، قامت قطارات الشحن الصينية بـ14 ألف رحلة إلى 50 مدينة تقع داخل 15 دولة أوروبية، وفق تقرير لوكالة شينخوا الصينية.
فكيف سيتم تمويل خطة البنية التحتية الأوروبية؟ وماذا عن تكاملها أو تناقضها مع خطة الرئيس الأمريكي جو بايدن للبنية التحتية، التي أعلنها مع مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى في يونيو الماضي؟ وهل من مميزات وعيوب في الخطط الصينية والأوروبية والأمريكية للبنية التحتية؟
تنافس محموم
لم يعد التنافس فقط بين الصين والدول الغربية، حول دخول الأسواق، والحصول على المواد الأولية الرخيصة، بل باتت مشروعات البنية التحتية، أحد أبرز مسارات التنافس بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وفي مقدمتهم دول الاتحاد الأوروبي من ناحية، والصين من ناحية أخرى.
وسبق الرئيس الصيني شي جين بينغ الجميع، عندما طرح رؤيته لخطط البنية التحتية العابرة للقارات، والتي أطلق عليها الحزام والطريق، وهي المبادرة التي تشمل الحزام الاقتصادي لطريق الحرير البري، وطريق الحرير البحري للقرن الـ21، وتقوم على مد السكك الحديد والطرق وبناء الموانئ البحرية.
وتم الاتفاق خلال السنوات الثماني الماضية، على تنفيذ مشروعات في 140 دولة حول العالم، بحسب ما قاله الرئيس الصيني في 23 يونيو الماضي، على هامش مؤتمر دولي للتعاون بين دول آسيا والمحيط الهادئ، على طول الحزام والطريق.
وأيضاً في يونيو الماضي، وخلال مشاركة الرئيس بايدن في قمة الدول السبع الصناعية الكبرى، أعلن بايدن عن مبادرة عملاقة للبنية التحتية أطلق عليها «إعادة بناء العالم بشكل أفضل»، وهدفها المعلن هو دعم الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، في مرحلة ما بعد الجائحة، ويتركز تمويل خطط البنية التحتية لهذه الدول على المشروعات الصديقة للبيئة، والتحول الرقمي والقطاع الصحي، وفق ما جاء في بيان البيت الأبيض.
وتعد مبادرة «إعادة بناء العالم بشكل أفضل» هي الأكبر في التاريخ من حيث القيمة، حيث أعلنت الدول السبع الصناعية الكبرى، أنها ستنفق 40 تريليون دولار، حتى 2035 على هذه المشروعات، وتتفق المعايير التي أطلقتها خطة البوابة العالمية الأوروبية، مع خطة إعادة بناء العالم بشكل أفضل، للدول السبع الصناعية الكبرى، حيث تشترك 3 دول من الاتحاد الأوروبي، ضمن الدول الكبرى الصناعية السبع، وهي إيطاليا وفرنسا وألمانيا.
تحديات للجميع
أكثر التحديات التي تواجه البوابة العالمية، وإعادة بناء العالم بشكل أفضل، أنها تعتمد في التمويل على القطاع الخاص، ورغم الإعلان عن خطة إعادة بناء العالم بشكل أفضل، في يونيو الماضي، إلا أنها لم تطرح مشروعات محددة حتى اليوم، كما أن خطة الاتحاد الأوروبي التي أعلنتها المفوضية، منذ 3 أيام، لا تتضمن أي تفاصيل عن كيفية تدبير 300 مليار يورو.
ورغم تحقيق مبادرة الحزام والطريق نجاحات كبيرة؛ مثل زيادة حجم التجارة بين الدول الواقعة على الحزام والطريق، إلى 6 تريليونات دولار منذ إطلاق المبادرة عام 2013، حتى 2018، وفق وكالة شينخوا الصينية، فإن المبادرة الصينية تواجه بعض التحديات، حيث تم تأجيل مشروعات تصل إلى 20 % من المبادرة بسبب تداعيات جائحة كورونا، وفق ما ذكرته وزارة الخارجية الصينية في يونيو من العام الجاري.
الشرق الأوسط وأفريقيا
ومن المرجح أن يكون الشرق الأوسط وأفريقيا من أكثر المناطق والأقاليم التي يمكن أن تستفيد من مشروعات البنية التحتية العابرة للحدود، من الصين، والولايات المتحدة والدول الصناعية السبع، والاتحاد الأوروبي.
فمن الناحية السياسية، توجد علاقات جيدة بين دول تلك المنطقة مع الصين، والدول الغربية الأخرى، كما أن المعايير الأولية التي تحدثت عنها مبادرة البوابة العالمية، ومبادرة إعادة بناء العالم بشكل أفضل، تتفق مع غالبية الدول الأفريقية، ناهيك عن التعاون القائم بالفعل بين الصين، والدول الشرق أوسطية وأفريقيا.
ووفق موقع «سي تاو» الصيني، فإن 89 % من موظفي الشركات الصينية، في 8 دول أفريقية هم من الأفارقة، وهو ما وفر 300 ألف وظيفة للشباب الأفريقي، في تلك الدول الثماني فقط.
كما قدر البنك الدولي أنه بحلول عام 2030، ستساعد مشروعات الحزام والطريق 7.6 مليون شخص، في دول المبادرة على التخلص من الفقر المدقع، و32 مليون شخص سيتخلصون من الفقر المعتدل، كما أن 19 دولة عربية تشترك في مبادرة الحزام والطريق، وفق حوار وزير الخارجية الصيني مع قناة «العربية».
المؤكد أن التنافس عن طريق البنية التحتية والمشروعات الاقتصادية، أكثر قبولاً، وأقل مخاطرة، من مسارات التنافس الأخرى بين القوى العالمية، التي تقوم على عسكرة الفضاء، والصواريخ الأسرع من الصوت، والقنابل النووية التكتيكية الجديدة.