إلى أين يمضي مجتمعنا البشري هذا؟
علامة استفهام تكاد تشاغب العقول، من الشرق إلى الغرب، لا سيما في الأوقات التي تحدث فيها تغيرات استراتيجية مصيرية، وها نحن والعالم معنا، أمام فترة تبدو انتقالية، من بين الحرب الباردة، ثم النظام العالمي الجديد، ثم حالة السيولة السياسية العالمية، فيما البعض يتحدث عن عالم متعدد الأقطاب، على وشك البزوغ، عالم مناف لفكرة الثنائية القطبية، التي حكمت العالم منذ زمن بعيد.
أفضل من قدم لنا رؤية عن العقود القادمة، المفكر والباحث والروائي الفرنسي الشهير، جاك آتالي، الرجل الذي اعتبرته مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، أحد أهم المفكرين المائة في العالم خلال العقدين الأخيرين.
في مؤلفه الشهير، «قصة موجزة عن المستقبل»، والصادر عن المشروع القومي للترجمة في مصر، ومن ترجمة الأستاذة نجوى حسن، يبادرنا الرجل بالقول إن اليوم يتقرر ما سيكون عليه العالم خلال العقود القادمة، وصولاً إلى عام 2100، وبحسب النهج الذي سننهجه، سيتحدد ما إذا كان أطفالنا وأحفادنا، سيعيشون بعالم قابل للحياة، أم سيعانون جحيماً مقيتاً، ولكي نترك لهم كوكباً يمكن الحياة فيه، علينا أن نتحمل مشقة التفكير بالمستقبل، وأن نفهم ما مصادره، وكيف نتعامل معه، وهذا أمر ميسور، فالتاريخ يخضع لقوانين تسمح بالتنبؤ به وتوجيهه.
قوى السوق.. والديمقراطية الفائقة
يكاد يحذرنا المفكر الفرنسي من فكرة قوى السوق الجامحة والمنفردة، والتي أحكمت خناقها على الكوكب، كتعبير نهائي لانتصار الفردية، وعنده أن هذه المسيرة المظفرة للمال، تفسر لنا جوهر القفزات الفجائية الأخيرة للتاريخ، سواء كانت من أجل تسريعها أو رفضها، أو التحكم فيها.
والشاهد أنه على الرغم من الملامح السلبية التي يراها البعض في إمبراطورية السوق، تلك التي تكاد تحكم الخناق على الرقاب، إلا أن آتالي يبشر بمجتمع عالمي إيجابي وخلاق، وعنده أن الديمقراطية الفائقة ستبدأ قبل منتصف القرن الحالي، في التجلي في الواقع المؤسسي للعالم، وسوف تبدأ الإنسانية في التحاور حول إقامة مؤسسات كونية متناسقة، تسمح للإنسانية بعدم الانهيار، تحت ضربات الإمبراطورية الفائقة، ويتفادى دمار الصراع الفائق.
ستصبح المدينة بحسب المفكر الفرنسي هي السكن الرئيسي لغالبية الإنسانية، فالمئات من المدن ستكون أكثر كثافة من مئات البلدان اليوم، وعندما يسكن فيها أكثر من ثلثي الإنسانية، سيكون من الضروري تكريس مبالغ طائلة لبنيتها الأساسية.
لذا ستصبح المدينة إطاراً لأهم الاستثمارات الجماعية، ولهذا سيصبح تنظيم المدن علماً مهماً، وستساعد البنية التحتية الرقمية على جعل المدينة مكاناً للتلاقي والتبادل والحياة، وستساهم الديمقراطية التشاركية والتعاونية، بواسطة تقنيات الوجود الجوال في كل مكان، في إشراك جميع من سيسكنها، وسيعمل فيها، ومن سيصبحون أصحاب حق الاستعمال.
مستقبل الأمم المتحدة
وعلى غير التوقعات السلبية السائدة بشأن المؤسسات على مستوى العالم، يبشر آتالي بأنه ستنشأ مؤسسات جديدة، في استمرارية للموجودة الآن بالفعل، ستكون قاعدتها منظمة الأمم المتحدة، وستعاد صياغة الميثاق الحالي للأمم المتحدة وتوسيعه، ليصبح دستوراً للكوكب.
ومن أجل ذلك عليه أن يأخذ بعداً متخطياً القوميات، وليس متعدد الأطراف، ستشمل مقدمته كل الحقوق والواجبات، على كل إنسان تجاه الطبيعة وتجاه الإنسانية والحياة، وسوف يضم القوانين الجديدة غير المنصوص عليها في الميثاق الحالي، وسوف يستبق بالأخص الحق الجديد الرئيسي والمؤسس في الطفولة، وسيفرض حقوقاً وواجبات أخرى لحماية الحياة والطبيعة والتنوع، وستضع الحدود التي لا تتخطاها الأسواق.
هل سيتم التصالح بين السوق والديمقراطية الفائقة؟
أغلب الظن أنه شيئاً فشيئاً سيجد السوق والديمقراطية توازناً كونياً، ستسمح مؤسسات الديمقراطية الفائقة للسوق بالعمل بفعالية، وبتفادي عدم الاستخدام الكامل لطاقات الإنتاج، من خلال إطلاق مشاريع كبيرة عالمية، للبنية التحتية للمدن، والطاقة والرقميات.
ستسيطر قروض التمويل الصغيرة على النظام البنكي، وستوفر مؤسسات علائقية تجارية خدمات شخصية، من الصحة إلى التعليم، وخدمات منزلية، وستعيد الأسواق توجيه التقدم التقني، نحو الصناعات الصحية، وخاصة الغذائية، ونحو المعرفة والبيئة.
ومن الملامح الخلاقة والمبشرة للغد، بحسب آتالي، قيام الديمقراطية الفائقة، أي التي تحدث بتوافق سكان الأرض جميعاً، بتطوير الثروة المشتركة، التي ستخلق الذكاء الجماعي، أي الثروة المشتركة للإنسانية، وهو الهدف الجماعي للديمقراطية الفائقة.
هذه الثروة المشتركة لن تتمثل في العظمة أو الثروة، أو حتى السعادة، ولكن في حماية مجموع العوامل التي تجعل الحياة ممكنة، وذات كرامة، أي المناخ والهواء والماء والحرية والديمقراطية والثقافات واللغات والمعرفة.
الزيادة السكانية والخدمات الصحية
يلفت آتالي إلى جزئية مهمة، وهي ما يطلق عليها الانقلاب السكاني خلال العقود القادمة، حيث سيصل تعداد سكان الأرض إلى نحو 9.5 مليار، أي بزيادة قدرها 3 مليارات عن تعدادهم اليوم، كما سترتفع الأعمار بالنسبة للفرد في البلدان الميسورة، بما يقارب المائة عام للفرد.
يمكن لهذا الأمر أن يكون عاملاً إيجابياً، إذا استطاعت الإنسانية توفير قدر طيب من الخدمات الصحية، تجعل من هؤلاء الطاعنين في السن، قوة عمل حقيقية، وليسوا عالة على البشرية.
والثابت أنه لا يتصور المرء قراءة للمستقبل، لا سيما إذا كانت من قِبَل مفكر فرنسي، من غير أن يتوقف أمام الولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها مالئة الدنيا، وشاغلة الناس، في أوقاتنا الحاضرة، ويخلص إلى أنها ستظل قوة رئيسية، ضمن سياقات متعددة الأقطاب، أي الأول أو المتقدم بين متساوين.
ولعله من المبشر في المستقبل كذلك، أن المؤسسات العالمية والقارية، وبفضل التقنيات الجديدة، ستقوم بتنظيم الحياة الجماعية، وستضع حداً لسلطة التراكب الاصطناعية، وللتدخل في تحوير الحياة، وذلك لإعادة الاحترام للطبيعة، وسوف تعلي من شأن المجانية والمسؤولية، والتمكين من المعرفة، وتجعل من الحاجة إلى ذكاء عالمي، أمراً من السهل بلوغه، جامعة بذلك الطاقات الإبداعية لكل البشر، من أجل التقدم.
هل المستقبل منبت الصلة عن الماضي؟
بالقطع لا، ولإدراك ما قد يكون عليه المستقبل، علينا أن نعود إلى خطوط عريضة في الماضي، وسنرى أن هناك ثوابت عبرته، كما سنرى أنه يوجد هيكل ما للتاريخ، يسمح بالتنبؤ بتنظيم العقود المقبلة.