هل تغيرت الاستراتيجيات العسكرية البحرية في طريقة تعاطيها مع السيطرة على البحار والمحيطات حول العالم في الآونة الأخيرة؟
الثابت أنه، وفي الفترة الممتدة من الحرب العالمية الثانية وحتى الباردة، كان الهدف الرئيس إلى الروس والأمريكيين، ومن قبلهم الإنجليز، هو السيطرة على أعالى البحار، من خلال السفن الحربية، ثم الطرادات، وصولاً إلى حاملات الطائرات بكافة أشكالها التقليدية والنووية.
لم تكن الغواصات غائبة في تلك الفترة، لا سيما أن دول المحور بقيادة ألمانيا النازية، قد برعت في استخدام غواصتها عالية القيمة والأهمية، وأوقعت الكثير جداً من الخسائر في صفوف قوات الحلفاء.
ما الذي جرى مؤخراً وجعل أحاديث الغواصات تكاد تسيطر على المشهد البحري، وبخاصة في ظل منافسة خطيرة ومثيرة، تخطت حدود المعقول؟ وما الجديد في زمن حروب الغواصات؟
باختصار غير مخل نحن أمام سباق غير مسبوق بين موسكو وواشنطن وبكين، سباق مركبات مائية مغلقة تحاول السيطرة على قاع البحار، والذي أضحى أداة موصلة بخطوط الفايبر العالمية المتحكمة في اتصالات الإنترنت، وبقية وسائل التواصل المعاصرة.
يمكن للمرء أن يبدأ الحديث من عند الصين تحديداً، تلك التي وضعت نصب أعينها القطبية العالمية، والتي لا تتحقق إلا من خلال القوة العسكرية، وإن كان سعي الصين الحثيث يمضي بهدوء ومن غير صخب أو جلبة.
ولعل ما يهم الصين في الوقت الحاضر، هو بسط سيطرتها على قارة آسيا ومنطقة المحيط الهادي، بأكثر من التوجه غرباً إلى ناحية المحيط الأطلنطي، حيث الولايات المتحدة والصراع القائم والقادم.
في أواخر العام الماضي، وعلى سبيل الصدفة، اكتشف غواص إندونيسي غواصة مسيرة صينية، وقد كانت هذه هي المرة الثالثة التي تحدث خلال عامين في إندونيسيا.
خلص المراقبون العسكريون إلى أن الصين قد بدأت بالفعل في تسيير غواصات آلية من غير بشر، تجوب المحيطات حول آسيا ومن غير أن يراها أحد.
يلفت النظر في الأماكن التي اكتشفت فيها الغواصات الصينية المسيرة، أنها استراتيجية إلى أبعد حد ومد، وتقع بالقرب من مسطحات مائية تشكل أجزاءً مهمة من طرق بحرية متعددة تمتد بين المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي.
لم يكن أمر تلك الغواصات الصينية ليغيب عن أعين الجانب الأمريكي، فقد نشرت مجلة فوربس الأمريكية مؤخراً تقريراً عن تلك الغواصات، ويبدو واضحاً جداً أن الفعل الصيني ورد الفعل الأمريكي يقع ضمن إطار المواجهات المحتدمة في منطقة بحر الصين الجنوبي، تلك التي تعتبرها الصين مياهاً إقليمية، فيما واشنطن ترى أنها مياه دولية، وما يزيد الأمر تعقيداً قيام الصين بإنشاء جزر صناعية في تلك المنطقة، وجميع الاحتمالات المستقبلية تؤشر إلى إمكانية حدوث صدام عسكري بين واشنطن وبكين في تلك المنطقة.
ماذا عن الجانب الأمريكي، لا سيما في ظل موازنة عسكرية هي الأكبر من نوعها عبر تاريخ البلاد، ومنذ الحرب الباردة التي وصلت إلى رقم معلن في حدود 740 مليار دولار، مع الأخذ في الاعتبار موازنة البرامج العسكرية السرية التي لا يعلن عنها، وفي مقدمها البرنامج الخاص بعسكرة الفضاء؟
في الأسبوع الأول من فبراير، نشرت مجلة ناشيونال إنترست الأمريكية الشهيرة، تقريراً عن أوضاع غواصات أمريكا النووية، والتي باتت واشنطن توليها اهتماماً فائقاً في السنوات الأخيرة، ضمن استراتيجية الإحلال والتجديد في القوات المسلحة الأمريكية.
تشير المجلة الشهيرة إلى أن واشنطن تخصص لتجهيز بعض غواصاتها، لا سيما من فئة فيرجينيا، بصواريخ خارقة، وتشير إلى أنه إذا أخطأ المنافسون لها في تحديد نوع الصاروخ، فإنه يمكن اعتباره هجوماً نووياً مباغتاً ويقومون بالرد عليه بصورة تقود لاندلاع حرب عالمية كبرى.
هل يفهم من هذا أن تلك الصواريخ تقليدية وغير نووية، وتفتح مجالاً واسعاً للقوة الأمريكية كي تقود وتسيطر من غير إشعال حرب نووية عالمية؟
بحسب المجلة الأمريكية، فإن النسخة الجديدة من غواصات فرجينيا، والتي يطلق عليها اسم «بلوك في»، ستكون أول غواصة في الأسطول الأمريكي يتم تجهيزها بصواريخ خارقة، مشيرة إلى أن الهدف من هذا الأمر، هو سد الفجوة التي ستحدث نتيجة خروج 4 غواصات «أوهايو»، من الخدمة خلال السنوات المقبلة بسبب تقادمها.
والثابت أنه رغم تفشي جائحة كوفيد-19 في الداخل الأمريكي خلال العام الماضي، إلا أن ذلك لم يمنع البحرية الأمريكية من تسلم الغواصة «يو اس اس ديلاوير»، وهي أحدث جيل من الغواصات الهجومية في الأسطول الأمريكي، وقد بدأ بناؤها منذ 6 أعوام، وهي غواصة متعددة المهام تعمل بالطاقة النووية، وتحمل صواريخ بحر- بر، وقادرة على أداء مهام مراقبة واستطلاع وهجوم.
هل كان لموسكو وقيصرها أن يغيبا عن هذا المهرجان القائم تحت المياه العميقة؟
يحتاج الحديث عن غواصات روسيا الحديثة إلى قراءة قائمة بذاتها، فهناك موجة تسلح روسية جديدة استنها القيصر بوتين، تختلف عما جرت به المقادير في زمن الاتحاد السوفيتي، غواصات مجرد ذكرها ترتعب وترتعد منه أطراف الغرب، أوروبياً كان أو أمريكياً.
ماذا عن الغواصة الكهرومغناطيسية الروسية بوسيدون؟
بغير تطويل ممل، إنها نوع جهنمي من الغواصات، مع أنها لا تحمل صواريخ نووية، أو تقليدية، لكن تكوينها يتيح لها إذا بلغت الشاطئ الشرقي من الولايات المتحدة الأمريكية، أن تحدث تسونامي بحري قادر على إغراق مدينة بحجم نيويورك وطمرها تحت المياه، وللمرء أن يتخيل أن تحيط تلك الغواصات بالولايات المتحدة من الشرق حيث المحيط الأطلسي، ومن الغرب حيث المحيط الهادي.
بالإضافة إلى ذلك كثر الحديث عبر المجلات العسكرية العالمية عن الغواصة الروسية المسماة «ديمتري دونسكوي»، تلك التي يعتبرونها وحشاً تحت الماء، والتي تحتوي على 20 صاروخاً باليستياً من طراز أر _ 39، بالإضافة إلى عدد من المزايا غير المسبوقة للطاقم، وهي أطول وأعرض من الغواصات الأمريكية بشكل ملحوظ. ماذا يعني ما تقدم؟
يمكن القول إن القوى القطبية تمضي بخطى حثيثة في استعداداتها لمواجهة كبرى.