بعد مضي 15 عاماً على حرمان الفلسطينيين من ممارسة حقهم الانتخابي بسبب الانقسام بين حركتي فتح وحماس، أوصى اجتماع الفصائل الفلسطينية الذي انعقد في أكتوبر الماضي، بضرورة إجراء الانتخابات الثالثة خلال شهر مايو هذا العام.
انعقدت عدة اجتماعات بين فتح وحماس، أشارت بعض الملامح إلى أن كلتا الحركتين اتفقتا بعد تصالحهما على تشكيل تحالف موجه ضد القوى الإصلاحية الناشئة لعرقلتها في صعودها الانتخابي، من خلال إلغاء الانتخابات بذريعة عدم سماح إسرائيل لسكان القدس الشرقية بالمشاركة فيها. ومن المقرر أن تجتمع القيادة الفلسطينية غداً الخميس بحضور ممثلي الفصائل الرئيسية لمناقشة قرار الانتخابات.
إن الساحة الفلسطينية اليوم، وما تشهده من تفاهمات غير معهودة بين الأضداد، ومن انشقاقات بين الشركاء، هي مشهد فريد أحوج لإعادة طرحه وفق بحث غير تقليدي من خلال قراءة الانتخابات الفلسطينية عبر تأثيرها وتأثرها بالقوائم العربية المشاركة في انتخابات البرلمان الإسرائيلي «الكنيست».
العنصرية الفلسطينية
لم تمانع إسرائيل في مشاركة عرب القدس الشرقية في الانتخابات الفلسطينية إلا لمواطنتهم الإسرائيلية التي قبلوها بمحض إرادتهم بالتقادم الزمني، وهي المواطنة التي كفلت لهم حقوقهم الانتخابية في البرلمان الإسرائيلي.
استخدام تلك الذريعة لإلغاء الانتخابات يفوق عبارة العذر الأقبح من الذنب، حيث قد تؤدي لإلغاء الانتخابات لعدم مشاركة سكان القدس الشرقية فيها، والذين لا يتجاوز عددهم 350 ألفاً، في حين أن السلطة الفلسطينية حرمت عرب 48 اللاجئين في مخيمات الداخل والشتات من الترشح والانتخاب، والذين يتجاوز عددهم 6 ملايين فلسطيني.
الانشقاقات الحزبية
هي الأكثر تأثيراً على حركة فتح، مع انشقاق أحد أبرز منظريها، مروان البرغوثي، ليكون الثاني بعد فصل محمد دحلان، لتصبح حركة فتح اليوم موزعة على 3 قوائم انتخابية، الأولى لمحمود عباس، والثانية لمروان البرغوثي، والثالثة لمحمد دحلان.
تحليلات إعلامية أرجعت أسباب الانشقاق إلى الخلافات حول ملف إقامة الدولة الفلسطينية، ولكن لو نظرنا إلى الجوار الفلسطيني، إسرائيل، لوجدنا أن هناك انشقاقاً مماثلاً وقع بين فلسطينيي البرلمان الإسرائيلي، والأسباب لا علاقة لها بقيام الدولة الفلسطينية كما أشارت تلك التقارير.
وما حدث على الساحة الإسرائيلية هو انشقاق الإخواني منصور عباس عن القائمة المشتركة الشيوعية التي يقودها أيمن عودة، التي ظلت تقود عرب إسرائيل عقوداً من الزمن، كما هي عليه حركة فتح التي قادت فلسطينيي الضفة وغزة عشرات السنوات.
الفرق بين الحالتين، في إسرائيل انشق الإسلاميون عن الشيوعيين، وفي الضفة الغربية انشق الشيوعيون عن حركة فتح التي خلعت ثوب الشيوعية تماشياً مع متطلبات اتفاقية أوسلو، بينما بقيت حركة حماس في قطاع غزة دون انشقاق أو تحالف رسمي مع أحزاب أخرى.
التكتلات الجديدة
لا يمكن وصف تصريحات البرغوثي بالعابرة، فهو الشخص الأقرب لكرسي الرئاسة الفلسطينية وفق استطلاعات الرأي، وأول تصريح لقائمته هو إعلان الحرب بشكل مباشر على الإسلام السياسي الذي تقوده حركتا حماس والجهاد الإسلامي.
الأمر الذي استنكرته حركة فتح دفاعاً عن حماس، وهو المؤشر الأقوى على أن فتح الممثلة بمحمود عباس تقهقرت جماهيرياً أمام صعود الشيوعية في الضفة الغربية من جديد، فضلا عن الإسلام السياسي الذي بسط قوته في قطاع غزة.
لم يصنف محمد دحلان تياره الإصلاحي بالوسطي، لكن الصراع الذي قد ينشب بين يسار ويمين، هو ما سوف يضع قائمته في الوسط البرلماني من منظور الشباب الفلسطيني الصاعد، وخاصة أنه لا يتبنى أياً من الأفكار الحزبية القديمة.
وفي الكنيست الإسرائيلي، لم يكن انشقاق الإخوان عن القائمة الشيوعية لتشكيل تيار سياسي وفق منظور الإسلام السياسي، بل من أجل التحالف مع حكومة نتنياهو اليمينية بذريعة أنها محافظة ولها أفضلية على الشيوعية الفلسطينية التي أباحت الشذوذ الجنسي.
الأدبيات المعاصرة
الانتخابات بمفهومها العالمي هي برنامج إصلاحي لتطوير الحياة المدنية، وسكان القدس الشرقية لا حاجة لهم لخوضها فلسطينياً في ظل مشاركتهم بالانتخابات الإسرائيلية، الدولة الأكثر تقدماً بمنظومتها المدنية عالمياً، ومن هم بحاجة ملحة للمشاركة في الانتخابات الفلسطينية هم سكان المخيمات في الداخل والخارج الذين رفضت الفصائل الفلسطينية مشاركتهم بها.
النظرة العامة للانشقاقات الحزبية والتحالفات الجديدة أن جميعها قائمة على المكايدات الفكرية المناطقية، وليس لها علاقة بالبرامج الإصلاحية المدنية، ما بين شيوعية تنهض من جديد في الضفة الغربية وإسلام سياسي يزداد قوة في قطاع غزة.
إن التفاهمات الجديدة بين حركتي فتح وحماس كانت كفيلة بإجراء الانتخابات الفلسطينية في قطاعي الضفة الغربية وغزة، ولكن صعود التيار الإصلاحي بقيادة محمد دحلان هو أكثر ما أثار قلق الفصائل الفلسطينية.
قد يكون محمد دحلان هو الفلسطيني الأول الذي كشف الأوراق الفلسطينية على الطاولة الخليجية دون تحفظ على الأسرار الفكرية التي تبنتها الفصائل الفلسطينية منذ أن تغلغلت الشيوعية في المجتمع الفلسطيني عام 1920.
ما يمكن قوله هنا أن الإصلاحي محمد دحلان ليس صنيعة دول الخليج العربي كما تحاول الفصائل الفلسطينية الترويج له، بل هو مطلب الجمهور الفلسطيني الناتج عن اليأس الذي خلفته الشيوعية والإسلام السياسي وتطرفهما بين اليمين واليسار.
ما يؤخذ على الإصلاحي محمد دحلان أنه حصر تياره بحركة فتح فقط، على الرغم من أن منصته الإقليمية كانت كفيلة لتؤهله القائد الأول للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج بعيداً عن الإطارات الحزبية القديمة.
الإصلاحيون الجدد
لم تعد العقدة في إجراء الانتخابات الفلسطينية بمشاركة سكان القدس الشرقية أو حتى فلسطينيي المخيمات، بقدر ما هي في حاجة الدول العربية، وخاصة الإقليمية المؤثرة، لفهم المعطيات الفلسطينية الجديدة وعدم حصرها بالإرث القديم المتهالك.
إن الشيوعية أخذت تتمركز في شمال إسرائيل، والإسلام السياسي مستقر في الجنوب الإسرائيلي وقطاع غزة، بينما الضفة الغربية تعيش اضطرابا غير مشهود من قبل.
وقد يرحب المجتمع الدولي بتأجيل أو إلغاء الانتخابات خشية أن تحظى حماس بمزيد من السلطة، لكن على المدى القريب والبعيد، لن يتمكن الإصلاحي محمد دحلان من التوسط بين المتطرفين إذا اضطرت إسرائيل إلى التحالف مع حركة حماس الإسلامية كما هي حكومة نتنياهو متحالفة حالياً مع الإخوان المسلمين في إسرائيل.
إسرائيل، مثل أي دولة، تبحث عن مصالحها أولاً وعمن يضمن لها استقرارها، وهذا لا يمنع من إعادة الدول العربية تقييم القضية الفلسطينية، وبما يتناسب مع معطيات الأمن والسلم الإقليميين والدوليين من خلال توفير المنصة الآمنة للإصلاحيين الجدد للقضاء على العنصرية الفلسطينية التي حرمت اللاجئين الفلسطينيين من حقوقهم الوطنية.